بقلم عصام الحلبي
قراءة في محاولات الاحتلال لكسر العمود الفقري للمشروع الوطني الفلسطيني
منذ انطلاقتها في منتصف القرن العشرين، لم تكن حركة "فتح" مجرد تنظيم سياسي أو فصيل عسكري، بل وُلدت كصرخة فلسطينية حرّة، أرادت أن تعيد تعريف الإنسان الفلسطيني خارج قواميس الوصاية والتبعية والانتظار. لهذا بالتحديد، شكّلت الحركة منذ بداياتها تهديدًا جذريًا للرواية الصهيونية، ولمشروع الاحتلال الإسرائيلي. واليوم، ورغم تغيّر المعادلات، ما زالت "فتح" تحت نيران الاستهداف الممنهج، ليس لأنها فقط صاحبة الطلقة الأولى، بل لأنها ما زالت تحمل مشروعًا يعاند النسيان، ويقاوم الإلغاء، ويؤسس لفلسطين الممكنة.
الصوت الفلسطيني الأول
في الستينيات، كانت فلسطين مجرّد قضية ملحقة على هوامش النظام الإقليمي، بلا صوت ذاتي، بلا أدوات كفاح مستقل. فجاءت "فتح" لتقول، نحن الفلسطينيون هنا، ونقاتل من أجل حريتنا، بأنفسنا. لم تكن مجرد بندقية، بل كانت إعلان استقلال القرار الوطني. لذلك، فإن استهداف إسرائيل لها لم يكن أمنيًا فقط، بل وجوديًا. أدرك الاحتلال منذ البداية أن "فتح" تحمل ما هو أخطر من الرصاص ، تملك الوعي.
أكثر من مقاومة… مشروع متكامل
ما يُقلق إسرائيل في "فتح" ليس كونها بدأت بالكفاح المسلح، بل قدرتها على أن تجمع بين أشكال متعددة من النضال، دون أن تتخلى عن جوهر الهدف. من البندقية إلى الدبلوماسية، من الشارع إلى المنبر، من الحجر إلى الملف القانوني، تميزت الحركة بقدرتها على التكيف دون الوقوع في التنازلات.
مشروع الدولة يرعبهم
في ذهن الاحتلال، أخطر ما تمثله "فتح" ليس عملياتها العسكرية فقط، بل مشروعها السياسي الواضح والمستند إلى القانون الدولي. فالحركة تطرح إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشريف، استنادًا إلى الشرعية الدولية. وهذا الطرح يضع إسرائيل في مأزق قانوني وأخلاقي أمام العالم، ويفضح زيف ادعاءاتها بعدم وجود "شريك سلام". لذلك، تسعى لتقويض هذا المشروع عبر ضرب حامله الأساسي حركة "فتح".
معركة في المحافل الدولية
منذ دخولها ساحة العمل السياسي والدبلوماسي، قادت "فتح" معارك مهمة داخل المنظومة الأممية. كانت وراء الاعتراف الدولي بفلسطين، وحملات الانضمام إلى اليونسكو ومحكمة الجنايات الدولية، وقدمت ملفات تُدين الاحتلال أمام الرأي العام العالمي. وهنا يكمن جوهر الاستهداف الإسرائيلي. "فتح" تُنقل المعركة حسب الظروف المناسبة دون التخلي عن اي من أساليب نضالها، فنقلت النضال من الخنادق إلى قاعات القانون، وعرّت إسرائيل أمام شعوب الأرض، في وقت تحاول فيه الأخيرة" الاحتلال الاسرائيلي" تسويق صورتها كدولة طبيعية في محيط مختل.
حضور في حياة الناس
ليست "فتح" حزبًا هرميًا بحتا و تقليديًا، بل شبكة أفقية حاضنة لكل أوجه الحياة الفلسطينية. من المدارس إلى المستشفيات، من الاتحادات الطلابية إلى المراكز الثقافية، من المؤسسات النسوية إلى النقابات العمالية، تشكّل "فتح" العمود الفقري للبنية الوطنية الاجتماعية. لذا، فإن استهدافها هو محاولة لتجفيف منابع الصمود الفلسطيني، وتفكيك الهوية الجماعية، وتحويل الفلسطيني إلى كائن فردي سهل الترويض.
المعركة ضد التهجير
الاحتلال يُدرك أن مشروعه لا يكتمل إلا بإفراغ الأرض من أصحابها. و"فتح" في المقابل، تدرك أن بقاء الفلسطيني على أرضه هو المعركة الأولى والأخيرة. من هنا، تنخرط الحركة في معارك صمود يومية، في القرى المهددة بالمصادرة، في القدس التي تواجه التهويد، وفي المخيمات التي تقاوم التصفية. فتح تزرع الفلسطيني في أرضه، لا كشاهد على النكبة، بل كفاعل في رسم المستقبل.
حركة لا تموت
لعلّ أكثر ما يخيف الاحتلال هو قدرة "فتح" على إعادة تجميع قواها بعد كل صدمة. في كل مرحلة، راهنت إسرائيل على أن الحركة انتهت، فإذا بها تعود بأشكال جديدة. في ذلك سرّ لا تحتمله منظومة الاحتلال: أن هناك فكرة فلسطينية لا تموت، وأنها تسكن في ذاكرة الناس أكثر مما تسكن في الوثائق. و"فتح" بالذات، ليست مجرد تنظيم، بل لغة وطنية شاملة، قابلة للتجدد، وللتحوّل، دون أن تفقد جوهرها.
على العهد باقون
لسنا ممن ينظرون إلى "فتح" من نافذة الحنين، بل من شرفة الإيمان. فتح ليست صفحة من الماضي نقرأها كل عام، بل هي نبض يومي في حياة الفلسطيني، من خيمة اللجوء إلى حواجز الضفة، ومن زنازين الأسرى إلى قاعات الأمم.
هي الحارس على باب الحلم، واليد التي لم تتعب من طرق بوابة العودة.
نحن أبناء "فتح"، لا لأننا نحمل بطاقة انتساب، بل لأننا نحمل في قلوبنا قناعة بأن فلسطين لا تُستعاد إلا بإرادة حرة، وعقل واضح، وبندقية تعرف وجهتها.
على العهد باقون، لا نمجّد "فتح" كصنم، بل نحرسها كمشروع، نراجعها بمحبة، ونحميها من أعدائها ومن ضعفها، لأنها الوعاء الأوسع الذي ما زال يتسع لنا جميعًا، مقاومة، دولة، كرامة، وحق لا يسقط بالتقادم.
فتح هي نحن، حين نصرّ أن نكون فلسطينيين أحرارًا.

