لماذا قد تُغيّر الثورة الطُّلّابيّة الأمريكيّة العالم بأسْرِه وتُفَكِّك علاقة التبعيّة مع الكيان العُنصري؟ وما هي فُرص امتِدادها إلى الشّرق الأوسط وأوروبا؟ وكيف سيُعَجِّل نتنياهو وبن غفير في انتِصارها بتصريحاتهما الأخيرة الوَقِحَة؟ وإليْكُم مُلخّصًا لإحدى تجاربي الشخصيّة في جامعاتها
عبد الباري عطوان
لمْ أرَ في حياتي وجهًا مُمتقعا مِثل وجْه بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي تمثّل في فيديو بثّه على منصّة “إكس” “التويتر” سابقاً يوم أمس، يُدين فيه الثّورة الطُّلّابيّة في الجامعات الأمريكيّة، ويعتبرها مُعاديةً للسّاميّة وشبّهها بنظيرتها التي اجتاحت الجامعات الألمانيّة في الثلاثينيّات، ويُحرّض قوّات الأمن الأمريكيّة على قمعها بقوّة.
نتنياهو يعرف أمريكا جيّدًا، مثلما يعرف أنّ انفجار هذه الثّورة الطلّابيّة قد لا تتوقّف حتّى الإطاحة بدولته العُنصريّة، تمامًا مثلما حصل أثناء حرب فيتنام والنّظام الفاشِي العُنصري في جنوب إفريقيا، فالثّورات الطُّلابيّة الأمريكيّة عندما تبدأ لا تتوقّف إلّا بتحقيقِ أهدافها كاملة، بوقف الحُروب (فيتنام)، وإسقاط الأنظمة العُنصريّة (جنوب إفريقيا)، وقوانين التّمييز العُنصريّ ضدّ السُّود في أمريكا.
نتنياهو يرى أبرز إنجازاته، أي السّيطرة على الرّأي العام الأمريكي، من خِلالِ مُنظّمة “الهسبارا” التي أسّسها مع شريكه توني بلير، وبميزانيّةٍ تصل إلى أكثر من مِليار ونِصف المِليار دولار سنويًّا، للتّضليل والكذب، وإشهار سيف “اللّاساميّة” في وجْهِ كُل من ينتقد المجازر الإسرائيليّة في فِلسطين المُحتلّة، نتنياهو يرى أنّ هذا الإنجاز في قمْع حُريّة التّعبير يتفكّك بشَكلٍ مُتسارع في الجامعات الأمريكيّة الثّائرة، وإنجازه الأكبر يَلفُظُ أنفاسه الأخيرة، والفضْلُ في كُلّ هذا لصُمودِ قطاع غزة ودِماءِ شُهدائه.
هذه الثّورة الطُّلّابيّة الشّريفة جعلت من قضيّة فِلسطين العادلة مسألة داخليّة أمريكيّة، ومحور صِراع سياسي بين الأجيال، ونضال مشروع لاستعادة قيم العدالة والحُريّات ووقف حُروب الإبادة، والعُنصريّة بأشكالها كافّة.
***
ما يُقلِق الحركة الصّهيونيّة بزعامة نتنياهو وأمثاله من انفِجار هذه الثّورة الطُّلّابيّة واتّساع دائرتها بحيث تشمل مُعظم الجامعات الأمريكيّة وقد تمتدّ إلى أوروبا والشّرق الأوسط وتُغيّر الأنظمة عدّة أُمور:
الأوّل: أن تبدأ هذه الثورة في جامعات النّخبة الأمريكيّة مِثل كولومبيا في نيويورك (قلعة اللّوبي الصّهيوني)، وهارفارد في هيوستن، فهذا يعني أنّ الجيل الأمريكي القادم لن يكون مِثل آبائه وأجداده خاضعًا للأكاذيب الصّهيونيّة، فهؤلاء الطُّلّاب الذين تعرّضوا للقمْع والاعتِقال ليسوا من الطّبقة العاملة وإنّما هُم أبناء أعضاء مجلسيّ النوّاب والشيوخ ورجال الأعمال، والطّبقة السياسيّة الحاكمة في أمريكا، هؤلاء الطُّلّاب هُم قادة أمريكا الجُدُد.
الثاني: أن يأتي التّحريض بالقمع الشّرس لهذه الثّورة الطُّلّابيّة التي تتصدّى للنّازيّة الجديدة في قطاع غزة من “الدّولة” التي قدّمت نفسها دائمًا ضحيّة للنّازيّة ومحارقها أي “إسرائيل”، وهذه “خيانة” لن ينساها قادة هذه الثّورة.
الثالث: وجود أعداد كبيرة من الطُّلّاب اليهود الأمريكيين في أوساط الثوّار الطّلبة ورفعهم الإعلام الفِلسطينيّة، وارتدائهم للكُوفيّة وهذه صفعة قويّة لنتنياهو، وأمثاله، وتكذيبًا لكُلّ اتّهاماته بمُعاداة الطُّلّاب للسّاميّة، والعداء لليهود.
الرابع: سُقوط السّيطرة الصّهيونيّة على وسائل الإعلام التّقليديّة ودورها في تشكيل الرّأي العام العالمي وفق معاييرها الإسرائيليّة، والفَضْلُ في ذلك يعود لوسائل التواصل الاجتماعي، صحيح أن هذه السّيطرة امتدّت لبعض هذه الوسائل، مِثل “الفيسبوك” و”اليوتيوب” و”غوغل” وغيرها، ولكنّ الخِيارات تتعدّد، وهذه السّيطرة بدأت تتآكل، بل وشهدت، وتشهد، بعض هذه الوسائل ثورات احتجاج داخليّة من قِبَل بعض مُوظّفيها ومُساهِميها بسبب انحِيازها للرّواية الإسرائيليّة، وقمع الرّواية الفِلسطينيّة الحقيقيّة عن المقابر الجماعيّة وحرب الإبادة والتّطهير العِرقيّ، وسفْكِ دماء الأطفال والنّساء والعُزّل في قطاع غزة.
الخامس: اتّساع دائرة القناعة، والصّحوة، والاعتقاد الرّاسخ في أوساط مُعظم الأمريكيين ومن بينهم يهود، بأنّ الدّعم الرسمي لبلدهم للمجازر الإسرائيليّة في القِطاع بالمال والسّلاح يُعرّض أمريكا ومصالحها في العالم للخطر من حيث جرّها إلى الحُروب بضَغطٍ من اللّوبيّات الإسرائيليّة وأنصارها، ونهب مال دافع الضّرائب الأمريكي.
السادس: هذه الثّورة الطُّلابيّة والقمع التي تعرّضت وتتعرّض له، رُغم طابعها السّلميّ البحت، هو مُحاولة ديكتاتوريّة فاشيّة إسرائيليّة لقمْعِ حُريّة التّعبير، وأين؟ في أحد أهم حُصونها، أي الجامعات التي من المُفترض أن تكون الحصن الحامِي المُفرّخ والصّائن لهذه القيم التي تُعتبر دُرّة الحضارة الغربيّة، وأنظمتها السياسيّة.
***
الوقاحة وإهانة الولايات المتحدة وثورتها الطُّلّابيّة السِّلميّة بلغت ذروتها عندما خرج علينا إيتمار بن غفير وزير الأمن الإسرائيلي بتصريحاتٍ يُطالب فيها بتأسيس ميليشيات مُسلّحة في الولايات المتحدة والدّول الغربيّة الأُخرى، لحماية الجاليات والمُؤسّسات اليهوديّة، أي أنّه يُشَكِّك في المُؤسّسات الأمنيّة الدستوريّة في هذه الدّول التي لعبت الدّور الأكبر في قيام واستِمرار دولته، ويُريد إقامة دُول يهوديّة صهيونيّة داخِل هذه الدّول مُكافأةً لها على دعمها للدّولة الصّهيونيّة على مدى 75 عامًا.
خِتامًا أقول إنّني على ثقةٍ كُبرى بأنّ النازيّة الصّهيونيّة انفضحت، وأُزيل القناع عن وجهها الإرهابي البَشِع على أيدي الطُّلّاب الأمريكيين، وإنّ العدّ التنازليّ لانهِيارها قد بدأ بشَكلٍ مُتسارع تمامًا مثلما حدث للنازيّة الأُم في ألمانيا، ووليدتها في جنوب إفريقيا، وقبل هذا وذاك نظيرتها في فيتنام الجنوبيّة والحرب الأمريكيّة لإدامتها.
أشْعُرُ بالفخر وأنا أُتابع هذه الثّورة وإنجازاتها وصُمودها، انطِلاقًا من تجربةٍ ذاتيّة، حيث التقيت بهؤلاء الطُّلّاب مُحاضِرًا في العديد من جامعاتها مثل هارفارد وجورج تاون وشيكاغو، وأذكر أنني فوجئت في إحداها في مدرسة الحوكمة في الجامعة الأولى (هارفارد) وكان خصمي فيها ريتشارد بيرل نائب وزير الدّفاع الأمريكي السّابق، (وأحد مُهندسي حرب العِراق) فُوجئت بتصدّي الطُّلّاب، في القاعةِ الكُبرى، يُهاجمون وزيرهم الأمريكي (بيرل) ويُطالبون بطرده ومُحاكمته باعتِباره مُجرم حرب مُلطّخة يداه بدماءِ الشّعب العِراقيّ (فيديو المُحاضرة موجود في أرشيف قناة الجزيرة التي بثّته على الهواء مُباشرة).
هذه الثّورة الطُّلابيّة قد تُغيّر أمريكا والعالم، وتُؤَسِّس لأمريكا جديدة تُشارك في حفظ الأمن والسّلام ووقف الحُروب والانتِصار للمظلومين في العالمِ بأسْرِه، وستُفَرِّخ ثورات مُماثلة في أوروبا، والشّرق الأوسط، بل والعالم الثّالث، انتصارًا للعدالة والمُساواة وخاصَّةً في فِلسطين المُحتلّة.. والأيّام بيننا.