يأتي آذار في كل عام بأريج من زهور روتها دماء الشهداء . يأتي على
غير انتظار ، فالزمن ينصرف و الفصول تبدل امكنتها ، و الاشياء تتغير ،
لكن أذار الأرض يمكث بثبات و إصرار وتحد حتى يتجدد في كل عام .
الآذار الفلسطيني ليس كغيره ، انه حكاية و ذكرى و عهد و وعد ، فيه
يتوحد الفلاح و العامل و السياسي و المقاتل و الفيلسوف و العامي . فيه
تمتزج الطبيعة بالإنسان ، و الماضي بالحاضر ، و الإرادة و العزيمة بالاماني .
و تختلط الدماء و المياه و الهواء و العطور و الدموع و الزيتون ، ليتكوّن
المواطن الفلسطيني الفولاذي الذي يستحيل على الانكسار او الاندثار .
آذار يأتي و يذهب ، و العمر ينقضي و يذبل الشباب ، و لا زالت شقائق النعمان
تتمرد على الغياب ، و تنتصر على البارود . لا زالت العصافير الصغيرة تواجه
الموت و ترفض الافول . لا زالت الجبال و السهول و البيارات القديمة و المساجد
المهدمة و الساحات التي كانت عامرة بأهلها تمقت الوجه القبيح للمحتل . يأتي
آذار كل عام بلونه الاحمر و الاخضر و الابيض ، و بالسواد الذي يصفع الوجوه
التي احترفت الاجرام و القتل و القرنصة و الاحتلال . يأبى آذار ان يفارقنا الا بعد
اخذه للعهد بان الفلسطيني الاصيل متمسك بكل ذرة من وطنه ، لن يفرط بحبة
رمل من ارضه التاريخية حتى و إن طال الزمان . فلسطين ليست للبيع و لم تكن
في يوم من الايام قابلة للمزاد و المقايضة و المساومة . انها فلسطين التي لفظت
كل المحتلين و الغزاة و دفنت كل خائن و عميل و بقيت شامخة مشرئبة العنق
حتى و هي مضرجة بالجراح . فلسطين ايها السادة مر عليها كل اصناف البشر ،
و كل الاديان الوثنية و غير الوثنية ، و كل لغات العالم ، و كل الافاقين و المستعمرين
و السفاحين ، كلهم خرجوا مدحورين خائبين و بقيت هوية الارض كما هي فلسطينية
خالصة نقية لا تعترف إلا بأصحابها ، لا تقبل على ظاهرها ولا في باطنها ايضا
الا ابناءها . هذا المحتل العبري لن يمكث عليها إلا قليلا ، انها مرحلة من مراحل
الزمن ستنقضي ويبقى الأرض كما هي لا تتناغم الا مع لغة عربية و لهجة
فلسطينية لا يجهلها إلا جاهل في التاريخ و ناكر للحقيقة التي لا تقبل الجدل . ان
العلاقة الحميمة التي تربط الفلسطيني بأرضه هي علاقة حياة مستمرة ، لأنها لا
تموت مع الموت إنها تنتقل من جيل الى جيل . لا يمكن انتزاع تلك العلاقة إلا
بفناء الإنسان الفلسطيني ، و من يمكنه إفناء شعب متجذر في التاريخ ، عميق في
تكوينه ، اصيل في نسبه وحسبه ، مصر على الحياة الكريمة في وطن مستقل حر !
لن يستطع أحد أن يغير من هوية فلسطين حتى لو وقفت معه كل قوى الشر ، حتى
لو تخاذل القريب و الغريب . ان فلسطين تستوطن في شغاف القلوب وهذه القلوب
خفاقة ، تزاد حنينا على حنين .
ماهر الصديق