بقلم: أ.خليل إبراهيم طه العلي.
تُعدّ الرياضة، وبخاصة كرة القدم، من أبرز وسائل التعبير عن الهوية والانتماء الوطني، لا سيّما لدى الشعوب التي تعيش تحت الاحتلال أو الاضطهاد، وفي هذا السياق، يحتلّ منتخب فلسطين لكرة القدم مكانة استثنائية ، ليس فقط كفريق رياضي، بل كرمز يجمع الفلسطينيين في الداخل والشتات، ويعكس صمودهم وأملهم بمستقبل أفضل، فمن مسيرة بدأت بتحديات تاريخية ضخمة، انتقل المنتخب من مجرد “مشاركة” رمزية إلى “منافسة” فعلية على الساحة القارية والعالمية، مع استمرار رسالته الوطنية كصوت فلسطيني في المحافل الرياضية الدولية.
تاريخ الكرة في فلسطين
تعود جذور كرة القدم الفلسطينية إلى بدايات القرن العشرين، حين تأسس أول فريق كروي عام 1908 في مدرسة الروضة بالقدس، لتبدأ بذلك ملامح حركة رياضية فلسطينية ناشئة، وخلال فترة الانتداب البريطاني، خصوصًا في العشرينيات والثلاثينيات، شهدت اللعبة انتشارًا واسعًا في المدن الفلسطينية مدفوعة بالحراك الاجتماعي والثقافي.
وفي عام 1928 تأسّس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم في القدس، ليكون أول مؤسسة رسمية تنظم اللعبة وتدير شؤونها، وتُوّج هذا الحضور المبكر بمشاركة فلسطين في تصفيات كأس العالم عامَي 1934 و1938، كأول دولة عربية آسيوية تخوض هذا الاستحقاق العالمي عبر مباراتين أمام مصر في القدس والقاهرة.
وازدهرت الحياة الرياضية في تلك الحقبة بظهور أندية فلسطينية فاعلة، مثل: نادي الدجاني والأرثوذكسي في القدس، إسلامي يافا، إسلامي حيفا، النادي القومي، ونادي عكا الرياضي. وتمثل هذه المرحلة ما يُعرف بـ«الحقبة الذهبية» الأولى للكرة الفلسطينية.[1]
سرقة الهوية الرياضية
لم يكن التاريخ الكروي الفلسطيني بمنأى عن محاولات الطمس والسرقة، إذ بدأت أولى هذه المحاولات عام 1931 عبر السعي للاستيلاء على التمثيل الدولي للرياضة الفلسطينية قبل أن تبلغ ذروتها بعد نكبة عام 1948، حين جرى تفكيك المؤسسات الرياضية الفلسطينية ومحو جزء كبير من السجلات التاريخية التي وثّقت بدايات اللعبة وازدهارها قبل الاحتلال، ورغم هذا الاستهداف الممنهج، ظلّ الحضور الفلسطيني في كرة القدم حيًّا، مستندًا إلى إرادة الرياضيين والأندية والمجتمع، الذين عملوا على حماية هذا الإرث من التلاشي.[2]
وفي العقود التي تلت النكبة، برزت غزة كمركز رئيسي لكرة القدم الفلسطينية، حيث نشطت الأندية والفرق المحلية وشكّلت الحاضنة الأساسية لاستمرار اللعبة، وخلال الفترة الممتدة من خمسينيات القرن الماضي وحتى عام 1998، خاض الرياضيون الفلسطينيون والاتحاد الفلسطيني لكرة القدم عشرات المحاولات لإعادة تثبيت عضوية فلسطين في منظومة كرة القدم العالمية، وقد استمر هذا النضال رغم الظروف السياسية المعقّدة، إلى أن نجح الفلسطينيون أخيرًا في استعادة موقعهم الطبيعي بانضمام الاتحاد الفلسطيني رسميًا إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA) والاتحاد الآسيوي (AFC) عام 1998، في خطوة تاريخية أعادت الاعتراف الدولي بالهوية الرياضية الفلسطينية ومكّنت المنتخب من العودة إلى الساحة الكروية العالمية بصفة رسمية واحترافية.[3]
مرحلة المشاركة الرمزية والتأسيس
بدأ الحضور الرياضي الفلسطيني في المحافل العربية والدولية يتشكل منذ مطلع الخمسينيات، رغم واقع الاحتلال واللجوء والظروف السياسية القاسية. فقد شاركت فلسطين في دورة الألعاب العربية الأولى في الإسكندرية ��ام 1953، ثم في الدورة الثالثة بالمغرب عام 1961، وفي دورة 1964 في القاهرة، وهي محطات مبكرة أكدت حرص الرياضيين الفلسطينيين على رفع اسم فلسطين في أي مساحة ممكنة.
وفي عام 1966 جاء أول ظهور فلسطيني في محفل دولي واسع، من خلال المشاركة في دورة الصداقة (ألعاب القوات الجديدة الناشئة – GANEFO) التي أُقيمت في بنوم بنه، وتميزت هذه المشاركة بأنها جمعت لأول مرة رياضيين فلسطينيين من الداخل (قطاع غزة) ومن الشتات (مصر، سورية، لبنان) في فريق واحد، ما منح الرياضة بُعدًا وطنيًا جامعًا يتجاوز الجغرافيا وظروف التهجير.[4]
وعلى امتداد العقود اللاحقة، واصل الفلسطينيون جهودهم لاستعادة حضورهم الرياضي، رغم الاحتلال والحصار والقيود التي طالت الحركة والتنظيم، وشكّل عام 1974 محطة محورية حين انضمّ الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم إلى الاتحاد العربي لكرة القدم، بالتزامن مع تأسيس المجلس الأعلى للشباب والرياضة في بيروت، وقد أسهم هذا التطور في إعادة تنظيم المؤسسة الرياضية الفلسطينية، وتهيئة بيئة سمحت بتشكيل نواة منتخب وطني بدأ يخوض مشاركات عربية منتظمة.
مثّل عام 1998 نقطة التحول الأكبر في تاريخ الكرة الفلسطينية، بعد انضمام الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم رسميًا إلى الاتحاد الدولي (FIFA) والاتحاد الآسيوي (AFC)، ومع هذا الاعتراف الدولي، بدأ المنتخب الفلسطيني مشاركاته الرسمية في إطار مؤسسي معترف به عالميًا، معلنًا انتقال الرياضة الفلسطينية من مرحلة النضال الرمزي إلى مرحلة العمل الاحترافي والتطوير الحقيقي، وممهّدًا الطريق لنهضة كروية واسعة شهدتها العقود اللاحقة.[5]
وقد سُجلت أول مشاركة رسمية للمنتخب الوطني عربيًا في تصفيات كأس العرب في لبنان 1998، ثم شارك في الدورة العربية التاسعة في الأردن عام 1999 حيث تمكن من الحصول على الميدالية البرونزية، كما اختار الاتحاد الآسيوي لكرة القدم منتخب فلسطين كأحسن منتخب في آسيا عن شهر أغسطس 1999. بعدها شارك المنتخب في بطولة غرب آسيا الأولى (كأس الحسين) في الأردن عام 2000.[6]
وفي عام 2001، وبعد أكثر من 66 عامًا، عادت فلسطين إلى المشاركة في تصفيات كأس العالم، وحصل المنتخب على المركز الثاني في المجموعة التي ضمّته بعد قطر، كما اختير كأحسن منتخب آسيوي عن شهر مارس 2001. وفي عام 2002 شارك المنتخب في بطولة غرب آسيا في سوريا، في حين شارك المنتخب الأولمبي الفلسطيني في دورة الألعاب الآسيوية “بوسان” في كوريا الجنوبية.
واستكمالًا لهذا المسار، شارك المنتخب الوطني الفلسطيني في بطولة كأس العرب الثامنة (بطولة الأمير فيصل بن فهد) التي أقيمت في الكويت في ديسمبر 2002، وحقق فيها المركز الثالث، ليُكرّس هذا الإنجاز حضور فلسطين المتصاعد في الساحة الرياضية العربية والدولية.[7]
عوامل التحول من المشاركة إلى المنافسة
أسهمت مجموعة من العوامل في نقل منتخب فلسطين من مرحلة المشاركة الرمزية إلى منافسة حقيقية، إذ جاء في مقدمتها إعادة تنظيم الاتحاد الفلسطيني وتطوير بنيته الإدارية والفنية منذ تولي الفريق الرجوب رئاسته، إلى جانب الدعم الذي قدّمته الفيفا عبر برامج تطوير البنية التحتية، ومنها تحديث ملعب فيصل الحسيني وتجهيزه لاستضافة المباريات الدولية، ونهضة الملاعب المحلية في الضفة وغزة قبل العدوان، كما شكّل دمج لاعبي الشتات إضافة نوعية لما حملوه من خبرات احترافية رفعت المستوى الفني ، بالتوازي مع ترسيخ مفهوم الاحتراف وتحسين البرامج التدريبية والإدارية داخل فلسطين، وقد صنعت هذه العوامل مجتمعة تحولًا واضحًا في طبيعة المنافسة التي يخوضها المنتخب اليوم والذي يقوده المدرب إيهاب أبو جزر مع جهاز فني فلسطيني بامتياز .
مرحلة المنافسة والإنجازات
دخل المنتخب الفلسطيني مرحلة جديدة من المنافسة والإنجازات بعد أن منح الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم وقيادته أولوية خاصة لبناء منتخب يحمل رسالة وطنية قبل أن يكون مشروعًا رياضيًا، غير أن التحوّل الحقيقي بدأ مع الفوز بلقب كاس التحدي الآسيوي عام 2014، وهو الإنجاز الذي منح فلسطين أول تأهل تاريخي إلى كأس آسيا في أستراليا عام 2015، ورغم صعوبة الظهور الأول، إلا أن تلك المشاركة شكّلت حجر الأساس لمسار أكثر احترافية وثباتًا، وفي نسخة عام 2019 من كأس آسيا، عاد المنتخب بأداء أكثر تماسكًا، لتبدأ مرحلة تصاعدية انعكست في تحسن واضح على مستوى التصنيف العالمي والنتائج الدولية.
وتواصل هذا التطور في التصفيات المؤهلة إلى كأس العالم 2026 حيث قدّم المنتخب عروضًا قوية ونتائج مميزة تأهل من خلالها الى نهائيات آسيا 2027[8]، كما برز حضوره اللافت في البطولة العربية الحادية عشرة في قطر 2025 بتأهل تاريخي إلى الدور الثاني وتصدره لمجموعته متقدمًا على تونس العريقة وقطر صاحبة الضيافة، ورغم خسارته في الدور النصف نهائي أمام السعودية، إلا أنه خرج من البطولة بعدما حفر أسمه بين المنتخبات العربية الكبار، ما جعل حلم الوصول إلى المونديال القادم أقرب وأكثر واقعية من أي وقت مضى. [9]
الرسالة الوطنية والرمزية
أضحى المنتخب الفلسطيني أكثر من مجرد فريق يخوض المنافسات الكروية؛ فقد تحول إلى رمز وطني وسياسي وثقافي يحمل علم فلسطين في الملاعب الدولية، ويجسد حضور الشعب الفلسطيني في وجه محاولات الإقصاء والطمس، ومع كل مباراة يخوضها، يصبح المنتخب جسرًا يوحّد الفلسطينيين في الوطن والشتات حول هوية واحدة وانتماء واحد، فيما يمنح الشباب نافذة أمل تُثبت أن التفوق والظهور المشرف ممكنان رغم الاحتلال والقيود والحصار، كما بات المنتخب منبرًا عالميًا يُعيد التذكير بالقضية الفلسطينية عبر حضوره الرسمي في البطولات القارية والدولية، ويساهم في إبقاء الصوت الفلسطيني حاضرًا أمام الرأي العام العالمي، وبهذا الدور المتصاعد، تمارس كرة القدم في فلسطين وخارجها وظيفة وطنية مركزية، بوصفها إحدى أدوات المقاومة والصمود والحفاظ على الهوية، حيث تلتقي فيها الرياضة مع السياسة والثقافة والنضال الشعبي في مشهد واحد يعكس إرادة حياة لا تنطفئ.
التحديات المستمرة
ورغم ما حققه المنتخب الفلسطيني من إنجازات لافتة، فإن طريقه لا يزال محفوفًا بعقبات قاسية تفرضها الظروف الاستثنائية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، فقيود الاحتلال على الحركة والسفر، ومنع دخول اللاعبين أو خروجهم، تشكّل أحد أبرز التحديات التي تُعطّل عملية البناء الرياضي وتعرقل المشاركة في البطولات الدولية. كما تتعرض البطولات المحلية للتوقف المتكرر خلال المواسم الرياضية بسبب الاعتداءات والاضطرابات التي يفرضها الاحتلال، فضلًا عن ضعف البنية التحتية الرياضية داخل فلسطين رغم التحسينات المحدودة التي تحققت خلال السنوات الأخيرة.[10]
وتتفاقم هذه الصعوبات مع تدمير الاحتلال للملاعب والمراكز الرياضية في أكثر من منطقة، الأمر الذي يترك آثارًا مباشرة على إعداد اللاعبين، ويزيد من الحاجة إلى تمويل مستدام واستقرار إداري وفني طويل الأمد لضمان استمرارية العمل الرياضي، وإلى جانب ذلك، ينعكس الواقع السياسي والاقتصادي الصعب على اللاعبين والجمهور، مما يجعل المسيرة الكروية الفلسطينية مسيرة مغايرة تمامًا لما تواجهه المنتخبات الأخرى.[11]
وبذلك، تتجلى استثنائية المنتخب الفلسطيني في قدرته على الاستمرار والتقدم رغم منظومة التحديات التي تحاصر الرياضة الفلسطينية من كل اتجاه، ليبقى حضوره شهادة على صمود شعب يصر على الحياة والهوية مهما اشتدت الظروف.
آفاق المستقبل
تبدو الطريق نحو المستقبل واعدة رغم الصعوبات، إذ بات حلم التأهل إلى كأس العالم أقرب من أي وقت مضى، في ظل تركيز الاتحاد على تطوير الفئات العمرية والأكاديميات الرياضية، وتعزيز حضور اللاعبين في مسارات الاحتراف الخارجي، إلى جانب استمرار العمل على تطوير الملاعب والبنى التحتية، مع الحفاظ على الدور الوطني للرياضة في تعزيز الهوية الفلسطينية وترسيخ حضورها في الوعي العام.
من المشاركة الرمزية وصولًا إلى المنافسة القارية، كتب المنتخب فصلًا جديدًا من فصول الصمود الفلسطيني. وتبقى كرة القدم في فلسطين فعل مقاومة، وجسرًا نحو الوطن، وصوتًا يعلو رغم كل محاولات الطمس والتغييب.
المصادر
(1) عزت طنوس، الفلسطينيين ماض مجيد، ومستقبل باهر، الجزء الأول، (بيروت، مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 1982) ص 16.
(2) عصام الخالدي، مئة عام على كرة القدم في فلسطين، ص 32-33.)،
(3) عصام الخالدي فلسطين وعضوية الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) 1946- 1998
(4) عن الاتحاد – موقع الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم
(5) عصام الخالدي فلسطين وعضوية الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) 1946- 1998
(6) عن الاتحاد – موقع الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم
(7) المصدر السابق
(8) المصدر السابق
(9) منصة المسار نجوم الفدائي يصنعون التاريخ: منتخب فلسطين يؤكد احقيته بالتواجد بين الثمانية الكبار بكأس العرب_ https://almasar.press/9688/
(10) مجلة علوم الرياضة الدولية – التحديات والصعوبات التي تواجه الرياضة الفلسطينية في ظل وجود الاحتلال الإسرائيلي
(11) الجزيرة نت الرياضيون بين نازح وشهيد والملاعب مدمرة في غزة المنكوبة بالعدوان الإسرائيلي_ https://www.aljazeera.net/sport/2025/8/6


