recent
أخبار ساخنة

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (51-52-53) بيت لحم مهد المسيح وموطن الفدائي الأول

الصفحة الرئيسية

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

يحار المرء في ظل فعاليات الانتفاضة الثالثة المتدحرجة يوماً بعد آخر نحو القمة، عن أي مدينةٍ أو محافظةٍ فلسطينيةٍ يكتب أو يتحدث، إذ تتداخل أمامه البلدات التي يجب أن يقف لها احتراماً، وأن يؤدي لها التحية تقديراً، وأن يحني لها الرأس تواضعاً واعترافاً، فما عادت مدينةٌ فلسطينية متأخرة عن اللحاق، أو تسير في آخر الركب، بل باتت كلها رائدةٌ وتقود، ومتقدمةٌ وتسير، تسبق الجميع، وتقود الكل، ويتبعها الآخرون، ويمضي على دربها الباقون، وفي كل يومٍ تسمو مدينة، وتعلو أرصدة مقاوميها وشهدائها، وتبدو كأنها هي الأولى وغيرها لها تابعٌ أو بعدها ثاني، وفي اليوم التالي يسمو نجم مدينةٍ أخرى، وتفرض حضورها بالقوة والدم، وتجبر الجميع على التسليم لها بأنها الأولى بحق، والمثال النموذج بجدارة.

بيت لحم واحدةٌ من بين هذه المدن المتنافسة على المكانة الأولى والدرجة العالية الرفيعة، التي تتقدم كل يومٍ ويبزغ نجمها مع كل حدثٍ، وقد ظن العدو أنها لن تكون كغيرها، ولن تنخرط في المقاومة كسواها، ونسوا أن مدينة بيت لحم حاضرة المسيحية الأولى، ومهد المسيح عليه السلام، الذي كان يوماً هو المقاوم الأول، داعياً كل صاحبِ حقٍ أن يثور ليستعيد حقه، وأن يستخدم السلاح في استعادة حقه ومقاومة عدوه، وأن يشتري بما عنده من مالٍ سلاحاً ليقاتل به، ولو أدى الأمر إلى أن يبيع رداءه الذي يلبس ليشتري به سيفاً وبه يقاتل.

ولبيت لحم وجودٌ فاعلٌ وتاريخٌ حاضرٌ، ومشاركة دائمة في الانتفاضات الفلسطينية السابقة، وفي كل المناسبات الوطنية، ولعل كنيسة المهد في المدينة، والدور الوطني الكبير الذي لعبته في حماية المحاصرين فيها، واللاجئين إليها، وصمودها الرائع في وجه سلطات الاحتلال، وتحديها لإرادته، ورفضها الاستجابة إلى تعليماته، واحتضانها رغم الخطر للمقاومين الفلسطينيين، يؤكد دوماً أن بيت لحم مقدامة، وأنها تنافح وتزاحم، وتنافس وتقاتل، ولا تقبل إلا أن تكون في الصفوف الأولى أو على القمة، ورجالها وشبانها من القادة والرواد.

وفيها ومنها سقط شهداءٌ عديدون، وخرج مقاومون كثيرون، من الجنسين كانوا ومن كل الأعمار تميزوا، خرجوا مدافعين عن مدينتهم، ومشاركين لشعبهم في انتفاضتهم المجيدة، فما أضعف مقاومتهم حقد الاحتلال عليهم، وقسوته في التعامل معهم، وكان من شهداء بيت لحم أطفالٌ نذكرهم، وصغارٌ نحفظ أسماءهم، وكأنهم يذكرون بطهرهم بما ورد في كتب العهد القديم عن مذبحة آلاف الأطفال من بيت لحم حقداً على يدي هيرودوس.

سياسة الاحتلال الإسرائيلي كانت تتعمد دوماً فصل سكان بيت لحم وعزلهم، وإظهارهم بأنهم يختلفون عن بقية الفلسطينيين، ولا ينتمون أو ينتسبون إليهم، فهم يريدون رغم عداوتهم التاريخية للمسيحيين، أن يطغى الطابع المسيحي على المدينة، فتشكل هويتها ووجهها العام، كي تتميز عن الوجود المسلم للمجتمع الفلسطيني، وما علم الإسرائيليون أن مسيحيي فلسطين ينتمون إلى وطنهم كما المسلمين وأكثر، ويتمسكون بها ويلتصقون بترابها، ويحافظون على مقدساتها، ولا يفرطون فيها، ولا يقبلون بالتنازل عنها أو المساومة عليها، فالمسيحية الفلسطينية هويةُ وطنيةٌ وانتماءٌ صادق لفلسطين التاريخية، فهم فيها أسبق وأعمق، ووجودهم فيها أقدمُ وأعرق، ولهم فيها تاريخٌ ومقدسات، وبقايا وآثار، وقبورٌ وأجداد، يجعل من جذورهم فيها عميقة، ومن أغصانهم في سمائها عظيمة.

المستعربون الإسرائيليون لا يغيبون عن مدينة بيت لحم، بل يستهدفونها ويحقدون عليها، فهم يتواجدون فيها دائماً، يبحثون عن طرائدهم، ويفتشون عن صيدٍ ثمينٍ ينالون منه، يجوبون في شوارعها مستغلين سماحة المدينة وأهلها، التي ترحب بالضيوف، وتبش في وجوه الزائرين، وتكرم وفادتهم، وتحسن معاملتهم، فهم في ضيافتها وقد دخلوا بيتها، لكن المحتل الإسرائيلي يأبى دوماً إلا أن يكون قذراً، فيأتي بأفعال دنيئةٍ من شأنها أن تفسد كل صالح، وتدنس كل طاهر، ويصر على محاربة الخير بين الناس، والقضاء على الفضائل الإنسانية الباقية بينهم، كما نالوا قديماً من أربعة رجالٍ معاً كانوا في سيارتهم، لكن التلحميين عرفوا كيف يكتشفون المستعربين ويلاحقونهم، ويقضون على أحلامهم الخبيثةٍ المريضةِ في مدينتهم. 

العدو الإسرائيلي يغتاظ جداً من دور مدينة بيت لحم في المقاومة الفلسطينية، فهي ليست مدينة عادية، وليست بلدة فلسطينية وحسب، إنما هي مدينة رمزيةٌ وروحيةٌ، لها مكانتها وقداستها، إنها عاصمة المسيحية كلها، وإليها تهوي قلوبهم وتهفو نفوسهم، ويحج آلاف المؤمنين إليها سنوياً، ويتمنى أضعافهم زيارتها والتبرك فيها، فهي مدينةٌ عالميةٌ، تلفت الأنظار، وتسلط الأضواء، وتجبر قادة العالم أن يصغوا إليها، وأن يسمعوا إلى سكانها، وأن ينادوا بالاستجابة إلى مطالبهم، والالتزام بحقوقهم، ولعل قداسها عشية الميلاد يضاهي قداس الفاتيكان واحتفالات المسيحيين في ساحتها، حيث يؤمها في ليالي الميلاد عشرات آلاف المسيحيين من كل مكانٍ في العالم، فيقيد وجودهم حركة الاحتلال، ويمنعهم من المداهمة والاجتياح، ومن التوغل والانتهاك، ويشعرون في ظل وجودهم أن يدهم مغلولة، وسلاحهم قاصر، وقدرتهم على الفعل محدودة.

اليوم بيت لحم تتميز وتتقدم، وتزهو برجالها وتتيه بأبطالها، وتقول بعالي صوتها أننا هنا نقاوم ونقاتل، ونفدي فلسطين وشعبها بفلذات أكبادنا وعيون رجالنا، فحوسان تدهس، والخضر تدهم، وقرية تقوع تلقي قنابل حارقة، وأبناء مخيم عايدة يطعنون، وبيت فجار تواجه، وطلاب جامعة بيت لحم يتظاهرون، وسياراتٌ تلحميةٌ كثيرة تحاول اقتحام حواجز عسكرية، وتنجح في دهس بعض جنودها وتلوذ بالفرار، وتنجح بالتواري عن الأنظار، وكثيرون يلقون على الدوريات الإسرائيلية حجارةً، ويرشقون الجنود بكل ما في أيديهم، ويردون عليهم قنابل الغاز المسيل للدموع، وتتكامل صورة بيت لحم في لوحةٍ ملحميةٍ رائعةٍ، يشترك في رسم تفاصيلها كل السكان، ويتبارى المواطنون في إبراز الملامح وإيضاح الصورة كأعظم ما تكون قوةً وعزماً.



بيروت في 5/12/2015

==========================================


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (51)
العدو ينسف ويدمر والأمة تبني وتعمر


بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي


إنه واجب الأمة العربية والإسلامية، والأمانة الملقاة على عاتقهم، وأمل الشعب الفلسطيني فيهم، فلا يقصروا فيه، ولا يتأخروا عنه، ولا يمتنعوا عن القيام به، فهو جهادٌ بالمال لا يقل عن الجهاد بالنفس، ولعله ضرورة أكبر حتى تستمر المقاومة ويتواصل الجهاد، وإنه من قبيل تبادل الأدوار وتوزيع المهام، كمن يقاتل على الجبهة في الصفوف الأمامية، وغيره خلف خطوط النار، أو يداوي الجراح ويسقي المصابين، أو يرعى الأهل ويبقي على بيوتهم مفتوحة، فالكل في مربع المقاومة وعلى أرض المعركة وفي سوح الجهاد، وعلى كلٍ القيام بواجبه، والنهوض بما يقوى عليه، والأداء بقدر الاستطاعة وحسب الحاجة، وكأننا جميعاً على ثغرٍ، وعلى الجميع أن يحمي الثغر الذي يقف فيه ويتواجد عليه، وألا يكون وجوده فيه ضعيفاً وأداؤه بسيطاً.


تضحيات الشعب الفلسطيني في انتفاضته الثالثة ليست فقط ما يربو على المائة وعشر شهداء، وما يزيد عن 13500 جريحاً، فهؤلاء وإن كانوا كثير وعددهم كبير، فإن الشعب الفلسطيني يحتسب شهداءه عند الله سبحانه وتعالى، ويرجو لهم الرحمة والمغفرة والقبول الحسن، والرضوان ونيل رضى الرحمن، ويسأله سبحانه الشفاء للجرحى والمعافاة الدائمة والعاجلة مما أصابهم، وهم يعلمون أن هذا هو حال الحرب وديدن القتال، والسابقون من الأمم أصابهم ما أصابنا، وحل بهم مثلما حل بنا، لكنهم يعرفون أن هذا هو الدرب، وأن ثمن عبوره واجتيازه دمٌ مهراقٌ وأرواحٌ نفيسةٌ عزيزةٌ تفقد.


لكن المصيبة الكبيرة والمعاناة الشديدة، والجرح المفتوح أبداً والألم الباقي دوماً، ذلك الذي يتمثل في هدم البيوت وتشريد المواطنين، وتخريب ممتلكات السكان، وتقويض ما بنوه على مدى عمرهم، وتبديد ما وفروه طوال حياتهم، إذ في دقائق معدوداتٍ لا أكثر تنفذ قوات الاحتلال الإسرائيلي قرار سلطاته العسكرية، القاضية بهدم البيوت ونسفها على ما فيها من أثاثٍ ومتاعٍ، وملابسٍ وفراشٍ وبقايا طعام، ودفاتر وأوراق وكتب مدرسية، وألعاب أطفالٍ وعرائس بناتٍ، وذكريات عمرٍ وحكايا الجدود والآباء.


مئات البيوت الفلسطينية اليوم مهددة بالنسف والتدمير، إنها سياسة حكومة نتنياهو المتشددة المتطرفة، التي أعلنت أنها ستكون أشد تطرفاً وأكثر قسوة، فقررت الضرب بيدٍ من حديدٍ على كل المتورطين في الانتفاضة، والمشاركين في فعالياتها، صغاراً كانوا أم كباراً، ورجالاً أو نساءً، فكانت سياسة هدم البيوت التي هي سياسة قديمة، تنفذها وتطبقها كل الحكومات الإسرائيلية السابقة، وتؤيدها محكمة الاحتلال الإسرائيلية العليا في مدينة القدس، التي اعتادت على تأييد قرارات الهدم، والمصادقة على مشارع النسف، عقاباً لذوي الاستشهاديين، وتأديباً لأسر منفذي عمليات الطعن والدهس والقنص.


وقد ظن نتنياهو أنه بقراره هذا مع جملة القرارات المتشددة الأخرى، أنه سيكون قادراً على كبح جماع الانتفاضة وإخماد فعالياتها، وإسكات أصوات المنادين بها والمؤيدين لها، علماً أن أغلب قرارات حكومته ردعيةٌ وزجرية، وهي أحد أشكال العقاب الجماعي، الذي يطال أسراً بأكملها، وقرىً وبلداتٍ ينتمي إليها المقاومون ويعيشون فيها، ولكنه رغم شدته يبدو مهزوزاً وخائفاً، ولا يدري أين ستذهب به هذه الانتفاضة.


بيت إبراهيم العكاري الذي نسف في مخيم شعفاط في مدينة القدس المحتلة، ليس هو البيت الأول الذي يهدم، ولن يكون الأخير الذي ينسف، وهو كما لحق بمن سبقه من البيوت التي نسفت، سيكون أيضاً سابقاً لغيره، وممهداً لسواه، فهذه هي سياسة العدو وهذه طريقته في التعامل معنا، وهو لن يغير من نهجه، ولن يبدل في سياسته، فهذه حال المستكبرين في الأرض، الظالمين من البشر، المتعالين من الخلق، والمعتدين من الأمم، فما يقومون به ليس بالأمر المستغرب عنهم، ولا المستنكر فيهم، ولكن ما أصاب غيرهم من المستعمرين سيصيبهم، فما بقي في الأرض مستعمرٌ، ولا غلب محتلٌ أمةً، وكما انتصر المقاومون الأولون على البغاة العتاة المحتلين لأرضهم، فإن مقاومتنا ستنتصر، وشعبنا سيغلب، وسيعود إلى طنه ودياره، عزيزاً كما كان، وأبياً كما يريد أن يكون.


هدم البيوت موجعٌ ومؤلم، وقاهرٌ ومؤذي، ولا عيب إن شكونا منه وعبرنا عن إحساسنا بالأسى بسببه، فالتشرد صعب، واللجوء مذل، والمبيت في العراء مهينٌ، فهل يقبل العرب والمسلمون على الفلسطينيين هذا الضيم والألم، وهذا الشظف والحرمان، وهل يحققوا للعدو ما يريد منا وما يأمل من سياسته معنا، وهو الذي بدا اليوم فرحاً وهو يهدم بيت الشهيد العكاري، وقد صور عملية النسف من الجو، ومن مكان ارتكابه لجريمته، ونشر صور النسف وكأنه يهدي فرحة التدمير إلى شعبه، ويشرب نخب النسف مع مستوطنيه، في الوقت الذي يقول فيه للفلسطينيين والعرب أنظروا ماذا فعلنا بكم وفي بيوتكم، فقد خربناها بأيدينا، ودمرناها بآلياتنا، ولم نبق لكم فيها على شئٍ، فلا سقف ولا جدران، ولا أبواب ولا نوافذ، ولا شئ من أثاثكم بقي ولا ذكرياتٍ لكم فيها تركنا، فهل تتعظون مما نفعل، وتتعلمون مما نعمل.


هذه هو لسان العدو الفرح المختال المزهو المغرور، الذي يرقص على جراحنا ويغني، ويقف على ركام بيوتنا ويتصور، فهل نتركه يتيه ويفرح، ويغني بما يرتكب ويصدح، أم نغيظه ونكيده، ونرد كيده إلى نحره، ونقف إلى جانب شعبنا الفلسطيني الذي يهدم بيته، ويدمر مسكنه، ونمد له يد العون والمساعدة، فنبني ما هدم العدوان، ونصلح ما أفسد الاحتلال، ونجعل من الحجر سكناً للرجال، وموئلاً للأبطال الذين لا يطالبون العرب والمسلمين بأكثر من دعم صمودهم، وتثبيت وجودهم، وإعلاء راية حقهم، وترسيخ جذورهم في الأرض، لأنهم الصبغة والهوية، والعنوان والجوهر.


بيروت في 3/12/2015


=====================================




الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (52)

أحمد المناصرة علمٌ جديدٌ واسمٌ لن ينسى

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

كثيرون هم الأطفال الفلسطينيون الذين علقوا في الذاكرة، وسكنوا القلوب، وبقيت أسماؤهم ترددها الألسن وتحفظها العقول، وتستعصي على النسيان، وترفض أن تغيب عن الوجدان، حتى غدت أسماؤهم أعلاماً عربية، ذائعة الصيت وواسعة الانتشار، ومعروفة عند العامة والخاصة، ومألوفة لدى الكثيرين في الوطن والشتات، وسمى العرب أبناءهم بأسمائهم، وأطلقوها على شوارعهم، وذكروها في كتبهم، وكتبوا عنها في صحفهم، وتبرعوا لذويهم بالكثير من المال، وأغدقوا عليهم بالرعاية والاهتمام، واستضافوا أهلهم ورحبوا بأسرهم، واستقبلوهم كما الأبطال، ورحبوا بهم واحتفوا بقدومهم، وعقدوا لهم الحلقات والندوات، والاحتفالات والمهرجانات، تكريماً لأبنائهم الشهداء وعرفاناً بعظمتهم رغم طفولتهم.

لم يكن محمد الدرة هو الأول وإن كان هو الأشهر والأكثر نجوميةً بين أطفال فلسطين المقاومين، فهو أولهم في الانتفاضة الأولى، وأسبقهم في الشهادة، وقد شهد العالم كله مقتله، وسمع استغاثته ومناشدته، وشاهده وهو يحتمي بأبيه من رشقات الرصاص المتوالية، ولكن جنود الاحتلال لم يحترموا طفولته، ولم يسكتوا عن ضعفه، ولم يصغوا إلى توسلاته، رغم أنه كان متوارياً وأبوه خلف حاجزٍ صغيرٍ، إلا أنهم انهالوا عليه بطلقات بنادقهم الحاقدة كالمطر، فنالت من جسده الصغير النحيل حتى سكت وخمد، وارتقى عند الله شهيداً أمام عدسات المصورين وعلى شاشات الفضائيات الدولية، وقد مضى على استشهاده سنواتٌ، إلا أننا ما زلنا نذكره، وسنبقى ما حيينا نذكره ولا ننساه.

أما طفل الانتفاضة الثانية بلا منازعٍ فقد كان فارس عودة، هذا العملاق الفلسطيني البطل، الشامخ في وقفته، الثابت على أرضه، المرفوع الرأس عزةً وكبرياءً، والمندفع الصدر جرأة وتحدياً وشجاعة، فما زالت صوره وهو يتحدى بجسده النحيل دبابة الميركافا الإسرائيلية الضخمة، التي لا يستحي العدو من نفسه وهو يواجه بها طفلاً صغيراً يقبض بأصابعه الغضة الطرية على حجارةٍ طينيةٍ لا تجرح ولا تؤذي، ولكنه الخبيث في أصله، والمريض في نفسه، والجبان في طبعه، لا يستطيع أن يواجه فلسطينياً ولو كان طفلاً صغيراً إلا من وراء جدرٍ، خوفاً على نفسه، ويقيناً بضعفه أمامه، ولو كان خلواً من السلاح، وعزلاً من أي أداةٍ قاتلة.

أما إيمان حجو الطفلة الرضيعة البريئة التي لم تعرف طعم الحياة، إلا شظف عيش أهلها وبؤس حياة شعبها، فقد اخترق الرصاص صدرها ومزق جسدها، ولم تكن يومها أكثر من قطعة لحمٍ تنبض بالحياة، ويجري في عروقها دمٌ صافي، لكنها لا تحسن الحراك ولم تتعلم النطق بعد، فإن صورتها لا تغيب عن الذاكرة، ولا تنساها العيون التي تغمض خجلاً وحياءً، وعجزاً وقهراً، أمام الطفولة البريئة التي يغتالها العدو بأبشع أسلحته.

إيمان حجو ستبقى مع الأيام شاهدةً على الهمجية الإسرائيلية، والحقد المسكون في صدروهم على أطفال فلسطين، رغم أنها ليست الوحيدة ولا الأولى، ولن تكون الأخيرة ما بقي العدو يحتل أرضنا، ويعتدي على شعبنا، إذ سبقها كثيرون، واستشهد معها وفي الحروب آخرون، ولعل الطفل علي سعد الدوابشة التي قتله المستوطنون ووالديه حرقاً، لهو دليلٌ آخر على حقدهم، وعلامةٌ أكيدة على خبث طباعهم وفحش أخلاقهم.

لا يستطيع البيان أن يحصي الأطفال الشهداء، ولا أن يحيطهم بعلمه وذكره، فهم أكثر من أن يحصيهم عادٌ، أو يذكرهم في مقاله كاتبٌ، ولكن منهم أعلاماً لا يستطيع أن يطويهم الزمن، ولا أن ينساهم الشعب، ومنهم محمد أبو خضير الذي قضى حرقاً، واستشهد غيلةً بطريقةٍ وحشيةٍ وهمجيةٍ لا تقوم بمثلها الوحوش الضواري في الغابات، بعد أن اختطفه مستوطنون لاهون ومجرمون عابثون، لا يشعرون بالخوف لأن القانون معهم، والعقوبة لا تطالهم، والسجن لا يبنى عليهم، فارتكبوا جريمتهم غيلةً وغدراً، فحلت عليهم اللعنة، ونزل بهم وبكيانهم الغضب، وبقي أبو خضير اسماً نذكره، وشهيداً نجله ونحيي ذكراه.

أما إسماعيل عبد ربه فهو من أعلام الانتفاضة الثالثة وإن لم يكن شهيداً، ولم يسمع عنه الناس كثيراً، فهو طفلٌ صغيرٌ لم يتم عامه الحادي عشر، اعتقلته سلطات الاحتلال الإسرائيلي من بين يدي والديه، بعد أن قامت بمداهمة منزله في بلدة حزما شمال مدينة القدس، واتهمته وهو ابن الأحد عشر عاماً بالتخطيط لطعن مواطنين إسرائيليين، وصدقت نفسها بما توهمت، واقتادته إلى السجن وهي منه خائفة، وعلى نفسها وجلة، أو هكذا حدثت نفسها، وتريد من العالم أن يصدقها أن إسماعيل خطرٌ عليها.

أحمد المناصرة هو الاسم الجديد وعلم الانتفاضة الثالثة، الذي سنسمع عنه الكثير وسنتعود عليه جميعاً، وسنذكره أكثر ولن ننساه، وحوله ستنسج القصص والحكايات، وسنتناقل أخباره وقصصه، وسيلهم الكتاب والمفكرين والشعراء إبداعاً، وسيكتبون عنه الكثير نثراً وشعراً، وسيخلدون كلمته البسيطة البريئة "ما بأذكرش"، التي أصبحت أيقونةً ورمزاً، وشعاراً يرفع ويردد، وستبقى صورته وهو أمام جمع المحققين الإسرائيليين يصرخ فيهم "ما بأذكرش"، لينظم بذلك إلى ثلة الأطفال الشامخين، الأطفال الرجال، الصغار الأبطال، الذين نعتز بهم ونفخر، ونتيه ونفرح، لكنه مختلفٌ عن غيره وإن لم يكن شهيداً، فقد شهد الطعن ورافق الشهيد، وكان قدره الأسر والاعتقال، وإن في السجون والمعتقلاتٌ رجالٌ لا يقلون قدراً عن الشهداء، ولا تنتقص الجدران من رجولتهم، ولا تخدش القضبان بطولتهم.

حريٌ بشعبٍ هؤلاء أطفاله، وأولئك رجاله، يقاومون كلواءٍ، ويناورون كالفرسان، ويصمدون كجبهةٍ، ويتشامخون كالجبال، ويزأرون كالأسود، ويصرخون كالرعد، ويسارعون إلى المواجهة والمقاومة كما البرق، لا يخافون العدو ولا يخشون بأسه، ولا يترددون عن مواجهته والتصدي له، ولا تذلهم القيود، ولا تحبسهم الجدران، ولا تمنع حريتهم القضبان، أن يكون له دولةٌ ووطنٌ، وعلمٌ ونشيدٌ وجيشٌ، وأن تكون له قيادةٌ رشيدة ورئاسة صادقةٌ مخلصة، وحكومة عادلةٌ حكيمةٌ، وحريٌ به بعد هذا كله أن ينتصر ويغلب، وأن يفوز ويحقق ما تصبو إليه نفسه، فهذا جيلٌ آخرٌ مختلفٌ ومميزٌ، حياته ملحمة، ومقاومته أسطورة، وعينه بصيرة، وعقله راشد، يتطلع إلى المعالي لأنها النصر، ويتوق إلى الحرية لأنها الكرامة.

بيروت في 4/12/2015


=================================


google-playkhamsatmostaqltradent