28/11/2015
إستطاعت الهبة الشعبية الفلسطينية عبر الشهرين السابقين أن تؤكد حضورها رقماً صعباً لا يستطيع أحدٌ تجاهله، فقد جاءت في مرحلة إشتدت فيها الهجمة الاحتلالية الصهيونية العنصرية على الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته، وبشكل مُلفت وممنهج، يأتي في إطار مخطط الهيمنة الكاملة، ومصادرة واستيطان وتهويد الاراضي، والسعي الحثيث إلى انجاز التقسيم المكاني للمسجد الأقصى بعد أن تمَّ التقسيم الزماني.
هذه الهبَّة الشعبية التي نتمنى لها أن تصبح إنتفاضة عارمة ومؤثرة أصبحت اليوم محاطة بالعديد من الاجتهادات، والتساؤلات، والمخاوف وكلها نابعة من الحرص على هبة الأقصى، وليس تشكيكاً بأمرها، أو استهدافاً لها.
من هذا المنطلق نحن نستحضر بعض القضايا الأساسية المتعلقة بواقع هذه الهبة الشعبية وتجربتها الراهنة قياساً مع تجارب الانتفاضات السابقة حتى نعطي الموضوع حقه من التوضيح وخاصة الرؤية المستقبلية.
قبل أن تبدأ الهبة الشعبية ومقاومتها الحالية كانت هناك أرضية واضحة، من القهر، والظلم، والقتل المتعمّد، والاعتداءات اليومية على المقدسات، ومصادرة الاراضي، وارتفاع نسبة المعتقلين، وهدم البيوت، واستباحة المدن والمخيمات بكل من وما فيها. هذا كلّه شكل أرضية صلبة لتصعيد المقاومة الشعبية القائمة في بعض القرى لتصبح حالة وطنية مميّزة شكلت نواة إستقطابية قادرة على تجميع الطاقات الشبابية.
وهذه الفئة الشبابية هي صادقة الانتماء، ومُندفعة وطنياً، وقادرة على الابداع والابتكار، ومستعدة للتضحية بشكل منقطع النظير دون تردد، الجميع اليوم يراهن على هذه الشريحة الشبابية التي احتلت الواجهة ومركز الصدارة.
ثانياً: خلال شهرين تم تقديم نموذجٍ حيٍّ للعطاء، والفداء والمواجهة دون حسابات شخصية، ودون تراجع، وهذا ما أرعب الجانب الإسرائيلي، وجعله في حالة استنفار دائمة، وفي حالة تصعيد ملحوظة ضد الشعب الفلسطيني في كافة المجالات، وفي كافة المناطق، والأكثر استهدافاً كان هؤلاء الشبان والفتية والأطفال الذين حملوا أعباء الهبة الشعبية، فتم التعاطي معهم بالقتل، والاعتقالات، والتحقيقات القاسية.
ثالثاً: برز التباين الحاد في التسميات لهذه الهبة الشعبية، والبعض سمّاها انتفاضة، ومع أنّ الكلام كله جميلٌ، إلاّ أنّ المطلوب هو احتضان هذه المقاومة الوطنية، وحمايتها من خلال مختلف الشرائح الاجتماعية، وإثرائها بمقومات الصمود والاستمرار، وأبرزها المشاركة الفعلية على أرض المواجهة، أي أنّ ساحة التحدي والمواجهة يجب أن تشهد مزيداً من التعاضد، والمشاركة الميدانية في مختلف أشكال الاحتجاجات، والاعتصامات، والمواجهات.
وهنا يأتي الدور الأساسي في تأمين الدعم المالي من قبل رجال الأعمال، والأغنياء، والميسورين، والسفارات، والقادرين على التواصل مع الدول الصديقة لدعم هبتنا الشعبية.
وهذا يحتاج جهداً مؤثراً من القيادة الميدانية في البرمجة والتخطيط والتوجيه لاستيعاب طاقات وقدرات شعبنا في صناعة الاحداث والتحوُّلات، وخاصة ما يتعلق بالانتفاضات.
رابعاً: إنّ الفصائل الفلسطينية تبارك هذه الهبَّة الشعبية، وتراهن عليها، ومن أجل أن تكون هذه المقاومة الشعبية في المستوى المطلوب، وبالشكل المطلوب، على مختلف الفصائل أن تتعاون بثقة وإخلاص فيما بينها، وأن تضع حداً للإنقسام المقيت، وأن يعمل الجميع من أجل تجسيد الوحدة الوطنية، والاتفاق على البرنامج السياسي، وخاصة مستقبل المقاومة ضد الاحتلال. فقيادة الفصائل لها دورها في رسم السياسات وتحديد العلاقات، وهو دور موجّه ومكمّل لدور القيادات الميدانية.
خامساً: إنّ هذه الهبة الشعبية، ومقاومتها المشرفة الرافضة لأية عملية عسكرة من أي جهة كانت تحتاج إلى عملية تعاون وضبط للحفاظ على ما قدمه الشهداء والاهالي من تضحيات. وهذا يعني أيضاً أن المطلوب من السلطة الوطنية، والفصائل الفلسطينية تأمين المصادر المالية والامكانيات لمعالجة الاحتياجات اليومية التي تتعلق بالصمود الفلسطيني، وهناك استحقاقات لا يمكن الهروب منها وخاصة دعم أهالي الشهداء، ومعالجة ودعم أهالي الجرحى والمعتقلين، وتأمين الاحتياجات اليومية في ظل البطالة، وتدني المستوى المعيشي.
سادساً: إنَّ الحرص على هذه الهبَّة الشعبية، ودفعها إلى الأمام، وإغنائها من قبل الفصائل الفلسطينية أمرٌ مهمٌ وله علاقة بكرامة الشعب الفلسطيني وكفاحة الوطني، وهذا يتطلب الجهد المتكامل من كل الفصائل الفلسطينية لإنجاح جلسة المجلس الوطني القادمة، وعدم وضع العراقيل أمامها حتى نستطيع لملمة أوضاعنا الداخلية، وتوحيد صفوفنا، ورؤيتنا السياسية، وأخذ القرارات المهمة المتعلقة بوضع السلطة، والمنظمة، والانتخابات، وبكل ما يتعلق باتفاق أوسلو.
إنطلاقاً مما تقدم نناقش زيارة كيري إلى المنطقة وخاصة لقاءه مع نتنياهو، وبعدها اللقاء مع الرئيس أبو مازن.
كيري جاء إلى المنطقة والموضوع الفلسطيني في آخر اهتماماته لأن القضايا الجوهرية هي ما يحدث في سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا، والاهم البحث عمّا يعزز الدور الاسرائيلي في المنطقة أي الشرق الأوسط، فالكيان الاسرائيلي هو جوهر القضية المتفاعلة في المنطقة قتلاً، وتدميراً تحت مسميات جميلة منها "الربيع العربي" أو "شرق أوسط جديد".
قبل أن يلتقي كيري نتنياهو صدرت مواقف أميركية واضحة على لسان أوباما ثم اكدها كيري وهي: أولاً مطالبة الجانب الفلسطيني الاعتراف بدولة إسرائيل دولة يهودية، وثانياً: مطالبة الفلسطينيين بوقف العنف الذي اعتبره كيري إرهاباً، والاهم طبعاً أنَّ من حق الإسرائيليين أن يدافعوا عن أنفسهم.
وصل كيري إلى رام الله مطالباً بالتهدئة لأن العنف الفلسطيني لا يحتمله أوباما، فالمطلوب حسب شريعة الولايات المتحدة وقف هذه الهبَّة الشعبية لأنه لا مبرر لها حتى لو كان الشعب الفلسطيني خائب الأمل من أية حلول سلمية خاصة أن عملية السلام التي روَّجت لها الولايات المتحدة سابقاً عادت هي نفسها فدمَّرتها، ونزعت منها روحَها، وأصبح الموقف الاميركي الواضح والرسمي هو دعم مخططات ومشاريع اليمين الإسرائيلي المتطرف، وما يدعو له المستوطنون الذين باتوا اليوم يمسكون بثمانية مقاعد في الحكومة الصهيونية برئاسة نتنياهو.
جاء كيري وعلى جدول أعماله فقط التهدئة، فهو يعتبر أنَّ ما يهدد الشرق الاوسط وأمنه واستقراره هم هؤلاء الفتية الأشاوس الذين يرفعون راية حماية الأقصى، ورفض التهويد، والمطالبة بالحرية والاستقلال.
نتنياهو كان واضحاً مع كيري عندما طرح معه موضوع التهدئة، والثمن الذي يريده نتنياهو بالمقابل هو أن أي تحسينات في عملية البناء للفلسطينيين في منطقة (ج) أو السماح بإقامة مشاريع يجب أن يسبقه موافقة الولايات المتحدة على ضم إسرائيل للكتل الإستيطانية، ومنحها الحرية والإذن للبناء فيها، وذلك طبعاً إستكمالاً لموقف أميركي سابق أكد عليه جورج بوش الإبن بضرورة أخذ التغيرات على الأرض في أي عملية لترسيم الحدود بين إسرائيل والدولة الفلسطينية العتيدة، كما رفض نتنياهو القيام بأي خطوة مهما كانت محدودة مثل التسهيلات الاقتصادية قبل حصول التهدئة ووقف المقاومة الحالية. بمعنى أوضح أن رسالة نتنياهو التي حملها كيري معه إلى الرئيس أبو مازن تعني دون شك أن الولايات المتحدة أصبحت تتبنى الموقف الاسرائيلي اليميني كاملاً.
الأخطر في الموقف الاميركي هو أنه لا يرى، أو لا يريد أن يرى ما يجري على أرض الواقع، فالولايات المتحدة بمعنى أوضح تبارك الاستيطان والتهويد عملياً، وهي تبارك أن تكون (إسرائيل) دولة يهودية، أي إنهاء حق العودة للشعب الفلسطيني، والسماح بالتطهير العرقي في فلسطين، وتذويب وتهجير من يتبقى من أصحاب الأرض، والسيطرة الكاملة على أراضي الضفة الغربية والقدس. إنَّ الولايات المتحدة صاحبة قرار الفيتو الدائم ضد أي قرار يصب لصالح الشعب الفلسطيني، ويغضب الاسرائيليين، لا تريد أن ترى ماذا يحدث في المسجد الأقصى من تهويد، ولا ما يجري في القدس من استيطان، وتدمير للمؤسسات الفلسطينية هناك. هي أيضاً لا تريد أن ترى الجرائم اليومية التي ترتكبها حكومة نتنياهو ضد الأطفال والنساء، وهي تغمض عينيها عن محاصرة الخليل، والعمل على صناعة حيِّ يهودي فيها على حساب المتاجر والبيوت والشوارع العربية هناك، والتي هُجّر أهلها بسبب العنف الاسرائيلي.
إن كيري لا يريد أن يسمع أو يرى الإجراءات العقابية الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون مثل هدم بيوت أهالي الشهداء، وسحب بطاقاتهم، وأخذ قرارات بطردهم من أرضهم في القدس أو غيرها إلى قطاع غزة حتى يسيطروا هم على هذه الأراضي.
الرئيس أبو مازن إستقبل كيري لأنَّ هناك أصولاً دبلوماسية، أما من يمثَّلون الفصائل والنقابات والمؤسسات، وقطاعات جماهيرية فقد اعتصموا خارج المقاطعه ورفعوا اللافتات استنكاراً لهذه الزيارة الموبوءة.
رسالة أبو مازن إلى كيري ونتنياهو كانت واضحة وهي: إن اسرائيل هي من تقوم بتدمير حل الدولتين، وتكريس نظام الأبرتهايد، وترفض تنفيذ الاتفاقات الموقعة. إن عملية السلام تبدأ بوقف الاستيطان، وتحديد مرجعية واضحة للعملية السياسية وهي الشرعية الدولية، وتحديد سقف زمني لأي عملية تفاوض لتحقيق الهدف المحدد لها، وبدون ذلك لا يمكن أن توقف المواجهات والصراع، فإلى متى يستمر تجاهل الحقائق؟.
الهبَّة الشعبية الفلسطينية المتصاعدة لا تبحث عن تحسينات معيشية، وانما تناضل من أجل إزالة الإحتلال، ونيل الحرية، واقامة الدولة المستقلة ذات السيادة الكاملة وعاصمتها القدس الشرقية، وعودة شعبنا إلى أرضه التي شُرّد منها العام 1948، والعودة مستندة إلى القرار الاممي 194.
فالهبَّة الشعبية ماضية باتجاه انتفاضة عارمة تستند قوتها إلى عدالة القضية، وإلى قرارات الشرعية الدولية، وإلى أرادة شعبنا وايمانه المطلق بالله وبالحقوق المقدسة.
فلنتمسك بمقاومتنا الشعبية... بانتفاضتنا التي لن تنطفئ جذوتها حتى تحقيق ثوابتنا الوطنية... والمشوار طويل، ونحن لها.