recent
أخبار الساخنة

*إلى نور صـالح هويدي.. سلامٌ عليكِ في العالَميـن*

الصفحة الرئيسية




كانت الطّـريق طويلةً جدًّا إلى بيروت حيـن وصلنا نبأ وفاةِ الطّالبـة نُـور هويـدي في تركيا عن عمرٍ ناهز العشرين عامًا، أحسسـتُ لوهـلة أنّ صاعقةً عنيفةً أمـادت الأرضَ بنا، واسـتغرقتني بُـرهةٌ من الزّمـن لأدرك وأعـي ما سمعتُه، ثمّ مرّ الوقت ثقيلًا وبطيئًا.

نور.. هذه الفتاةُ الهادئة الوادعـة في كلّ تفاصيلها... في نبوغـها الوقّاد وعبقريّتها الفذّة وذكائـها اللّماع وحصـافتـها الثّريّة. تعرّفتُ إليها حين كنت معلّـمًا للّغة العربيّة في ثانويّـة دير ياسين وهي طالبـة في الصّفّ الثّاني عشـر. عرفتُها كمثل فراشةٍ لا تهدأ في حيويّتها ونشـاطها وحذقـها. وكانت تُجاذبـني أطراف الحديـث عن طُمـوحها الأخّاذ، وخططها المُستقبليّـة، واختياراتها المهنيّـة، لدرجة تشعـر معها أنّ الأرض كلّها لا تكاد تتّسـع لأحلامـها الكِبـار.

ابتسامتها الدّافئـة كانت أقرب طريق يُوصلك إليها، تشـعر وأنت تتحدّث إليها وكأنّ الشّـهد يتقاطرُ من كلماتِها؛ وكأنّها تنتقي ألفاظـها حرفًا حرفًا وتنسج منها حكاياتٍ عذبةٍ رشيـقةٍ وشـائقةٍ.. عهدتُها فتاةً جميلة الأخلاق، ودودةً في غير تكلّف، بسيطةً في غير تملّق، مرحةً في غيـر تصنُّع.

كانت نور من الطّالبات الأكثر ثقافةً ووعيًا اللّواتـي عرفتهنّ خلال مسـيرتي المهنيّة، وكنتُ أقرأ في عينيها محبّتـها الفيّاضـة للّغة العربيّة. كانت تعشـق أن تقف قُبـالة زميلاتها ثمّ تُحدّثهنّ عن فلسفة الشّكّ عند ديكـارت، والاسـتجابة السّلوكيّة عند سكينـر، والتّحليل النّفسيّ عند فرويد، والعمليّات العقليّة عند جيمس، وغيرها العشـرات من القضايا الجدليّة في علم النّفس.. كنتُ أتعجّب من ثراء ثقافتها وعمـق تفكيرها وسَـعة قراءاتِها.

كنتُ أنصتُ إليها بشغف، لطالمـا حدّثتنـي عن رغبتـها في تقلّد شهادات علميّة عالية في علـم النّفس... وحينما شدّت رحـالها إلى تركيا كانت أحلامها ترفرف معها وتُسـابقها إلى ما وراء البحـار، وكانت الملائـكة تضع لها أجنحتـها رضًا بما تصنـع. 

إنّ نور هي بنـت أبيها بحقّ، زميلي الأستاذ صالح هويدي، اقتبسـَت منه دماثةَ أخلاقـه وليـنَ جانبـه وكريـمَ معشـره. وما أجمل وأروع أن يُشـابه الإنسانُ أباه في كريم الخِصـال وجزيـل المناقـب وعظيـم الشّمائل! 

لا أملك اليوم في جُعبتـي من الكلمات ما أسـتطيع به أن أرثيَ هذا الملاك في عليـائه.. أنتِ اليوم يا نورُ نورٌ سـرمديّ سيُرافقنا ما حَيِينا، ستظلّ روحكِ في سمائنا ترقبُنا بعينينِ نديّتيـن..
رحمكِ اللّه يا نور، وطيّب ثراكِ، وألهَـم ذويك الصّبر والسّلوان وحسن العزاء، نامـي قريرة العين، وغدًا تلقَيـنَ وعد ربّكِ في جنّةٍ عرضها السّماوات والأرض.

إنّ العيـن لتدمـع وإنّ القلـب ليحـزن ولا نقـول إلّا مـا يُرضـي ربّنا ولا حـول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

• علي مرعي
google-playkhamsatmostaqltradent