recent
أخبار الساخنة

رجالٌ أعلى الصهريج.. وفاء بهاني

الصفحة الرئيسية




عندما كتب غسان كنفاني رجال في الشمس، وأخبر العالم كله أن اللاجئ الفلسطيني شق بطن المخيم وهرب أعزلا نحو الأرض الواسعة في صهريج، كان يروي لنا صورا موجعة من عذابات الشتات ورغبة البقاء.
وقبل أن تفكر الحكومات العربية بمنحنا حيزا للوقوف على ارجلنا، كان السمسار أقدر على اقناعهم بأنه يملك لهم في جعبته أوطانا أكثر اتساعا من تزاحم الخيام، وأقل ضجيجا من حوارات أسقف الصفيح. فتركوا وراءهم عدما وقلوبا معلقة وآمالا كاذبة.
إن شراسة الواقع تفرض علينا خيارات قاتمة ولا تقل صرامة عن معطياته. فالمعادلة ببساطة تدور حول رغيف الخبز.. وكلنا منساقون لذلك السُّم ضمن منظومة الحمار والجزرة.. أعطني ما لديك وسأرمي لك بعضا ضئيلا مما لدي.. أعطني قلبك وسأعطيك مرورا مميتا عبر خط العبور المدجج بالبرتقال الملغّم.
لقد كان الصهريج بطلا.. فدائيا يحمل في بطنه ثلاثة لاجئين التقمهم الحنين لغربة لا تشبه المنفى.. لكنهم ما أجادوا التسبيح تحت سطوة الغرور بالمجهول.. فهلكوا جميعا.. ولم تُنبت عليهم صحراء العرب شجرة يقطين واحدة تواري أوراقها تقرحاتهم.. وتخفي ثمارها وجبة الموت الثقيلة.
ها نحن اليوم.. فدائيون عُزَّل بيد الرغيف.. وسماسرتنا أبناء عِرس.. عروضهم لا تنتهي.. وحاجتنا لا تَخرَسُ أصواتها..
نحن الهاربون في الربوع، العابرون على شدقي الوطن المُغفل.. نحن المغفلون المرتابون المثقوبون بالمسميات.. نحن الضائعون بين الرفض والمقامرة.. نهيم على وجه البلاد العريضة كي تُعطينا زيتا وطحينا..
نشحذ منها الليل كي ننام ونستتر.. ونعيش كالسناجب على جذع النهار، نتلقف من هم بحاجة لطوابير أصابعنا.
لا كرت مُؤن.. ولا بطاقة لجوء.. ولا خيمة زرقاء.. ولا لافتة تتشدق بطفل الامم المتحدة اللقيط.. الذي دسَّته في حلوقنا كي نسترضع بعض حليبه ودمنا..
نحن هنا في البلاد.. يُهربنا السمسار من البلاد إلى البلاد.. وفي أعلا التلة رشاش أعور يراقبنا عن كثب.. وينسج علينا النكات.
كم فأرا مرّ من هنا.. كم فأرا لم يمر.. وكم فأرا ينتظر؟!
غسان الذي كدسنا في صهريجه.. وألبسنا جوع الجياع.. قبل أن يترجل، كان يعلم أن الجياع سيموتون لأنهم يموتون.. وأن الصهريج يحيا كي يصنع المزيد من الموت.
google-playkhamsatmostaqltradent