recent
أخبار الساخنة

سليم البيك فلسطيني في محنة الهجرة

الصفحة الرئيسية


صدرت رواية الكاتب الفلسطينيّ الشاب سليم البيك بعنوان "تذكرتان إلى صفّورية"، وهي واحدة من سبع روايات تصدر عن دار الساقي، بالتعاون مع مؤسّسة آفاق ضمن برنامج لكتابة الرواية تحت إشراف الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي. ويروي البيك قصّة يوسف، شاب فلسطينيّ يتعرّض لمحنة الهجرة أربع مرّات، لتتعرّى أمام القارئ أزمة الهويّة والأمكنة واللجوء في عصرنا هذا. فيُعيد البيك تسليط الضوء على أسطورة الفلسطينيّ المشرّد التي طالما تناولها الأدب العربيّ روايةً وشعراً، ثمّ يضيف إليها مأساة اللجوء السوريّ في القرن الحادي والعشرين. فيعود الكاتب الشاب إلى نكبة الفلسطينيّ الذي تلفظه الأمكنة، ما إن يبلغها، لكنّه يضيف هذه المرّة نكبة اللاجئ السوريّ الذي لا وطن يعيد إليه شعوره بالوطن: "يوسف، الذي لم يكن تمامًا من فلسطينيّي سوريا والذي لن يكون تمامًا من فلسطينيّي أوروبا، لا يشعر بهويّة واضحة له، ولا بانتماء واحد ومحدّد، لا مدينة يعتبره أهلها واحدًا منهم ولا مدينة يعتبرها هو مكانه." (ص 118)

"رافق صباح اليوم التالي، منذ استيقظ، حطام في كلّ المشاعر. تفشٍّ عشوائيّ لشعور واحد وهو الإحباط، أو لشعورين هما الإحباط والوحدة، أو لثلاثة، الإحباط والوحدة والحسرة" (ص 26). في وصفٍ دقيق ومتسلسلٍ، في سرد الحياة بيوميّاتها ومجاريها وصعابها، في توقّفٍ عند أمكنة عدوّة لا تستقبل ولا تمنح أسرارها، في حكاية لوجوه، لجيران، لأناس لا يشبهون الأهل المتروكين في بلاد الشرق، الأهل الذين لم يعد من سبيل للبقاء إلى جانبهم، ينقل الكاتب قارئه إلى مأساة اللاجئ الفلسطينيّ/ السوريّ في القرن الحادي والعشرين.

معاناة جيل الشباب الهارب من الموت إلى صقيع الغرب ضمن لعبة زمنيّة تتأرجح بين العودة إلى الوراء وسرد الحاضر. فيطرق البيك قضايا الحبّ والمرأة والجنس والمال والمكان والعمل والأحزاب الــسياسيّة. يُلقي عَرَضًا الضوء على قضايا علاقة المجتمع بالمــهاجرين إليه، أحكامه المسبقة على العرب، على اللاجئين، على الذين حكمت عليهم الظروف بإبقاء حقائب سفرهم خلف الأبواب: "الحقائب حاضرة في غرف بيــت أهله كما في كلّ بيــوت المخيّم. دائمًا هناك، في مكان يمكن رؤيتها فيه..." (ص 106).

وعبر توقّفه عند حياته اليوميّة، شؤون بيته وعمله وقهوته والباص والجيران، يفهم القارئ طبيعة الحياة التي يعيشها الراوي. يفهم كذلك وحدته وحسرته وألمه والصقيع الداخليّ الذي يسكنه. فيعود السرد إلى الهجرة الأولى، إلى التشرّد الأوّل من فلسطين، من صفّورية العنوان والهدف والمحرّك والمرام. يعود إلى هجرة الجدّ من سبعين عاماً من فلسطين إلى المخيّم في سورية، ليبقى الحلم الأكبر هو العودة إلى هذا المكان الأوّل، إلى صفّورية، مسقط الرأس والجذر الأساسيّ.

ومن بعد اللجوء الأوّل إلى سورية (مخيّم اليرموك) ثمّ إلى دبي ومن بعدها إلى اليرموك مجدّدًا ففرنسا، غربة ولجوء وأبديّة في اللاانتماء. وصحيح أنّ عجلة الهجرات تتوقّف في فرنسا. وصحيح أيضاً أنّ فرنسا تنتمي إلى البلدان الأوروبّيّة الأكثر تطوّرًا وانفتاحاً وحضارةً، إنّما تبقى دقائق الأمور مرآةً لآراء سلبيّة أو آراء يسيّرها الإعلام والكليشيات الملصقة على كلّ إنسان. تبقى تفاصيل النظرات وطرق التعامل سكاكين تقتل العربيّ عموماً والفلسطينيّ خصوصاً. تبقى محاولات الانتماء عبثيّة. حتّى محاولات الفرنسيّين بأن يكونوا طيّبين ومتعاطفين ليست كافية ليشعر المرء بالانتماء "تشفق على هذا الغريب وتتبرّع بأغراضها البائتة له." (ص 32).

تكمن حنكة السرد في هذه الرواية في أنّ ليا صديقة الراوي تطلب منه داخل الرواية أن يكتب الرواية لتتحوّل اللعبة الروائيّة إلى لعبة سرد وتفرّج على السرد، إلى دوّامة سرديّة (mise en abime). فالكاتب يكتب، ويكتب كيف يكتب، ويكتب كيف حرّضته صديقته على الكتابة، ويُنهي الرواية بأسلوب جميل مُحكَم يُفكّر فيه كيف سيختم السرد. ولم تأتِ نصيحة الصديقة الفرنسيّة بالكتابة اعتباطيّة فقد كانت سبيل الراوي الفلسطينيّ/ السوريّ إلى التحرّر: "حبيبي، لمَ لا تكتب ما حصل معك؟ [...] أخرِج كلّ ما في داخلك، أكتبه واخلص منه" (ص 83-84).

نجح الكاتب الفلسطينيّ الشاب في روايته الأولى بجعل نصّه متماسكًا وسلساً ومتمتّعاً بتقنيّة روائيّة مُقنعة. لكنّه وقع في ذاتيّة شائكة وفي واقعيّة لم تتوهّج ولم تعلُ فوق الواقع الذي عاشه وعانى منه أيّ سوريّ أو فلسطينيّ أو مهاجر إلى فرنسا أو إلى أيّ بلد أوروبيّ آخر. إنّما تبقى "تذكرتان إلى صفّورية" رواية البحث عن العودة، رواية سليم البيك بصوته وحياته وقصّته وبحثه عن مكان ينتمي إليه، عن مكان يعود إليه.

المصدر: الحياة
google-playkhamsatmostaqltradent