تقرير عصام الحلبي
مقدمة توضيحية
من منطلق الحرص على صيانة النسيج الوطني والثقافي لمجتمعنا الفلسطيني، يأتي هذا التقرير ليسجّل ملاحظات نقدية بنّاءة حول ظاهرة انتشار جمعيات المجتمع المدني، وتمويلها المشروط في كثير من الحالات. وهنا لا بد من التوضيح ابتداءً، أننا لسنا ضد وجود الجمعيات ولا ضد عمل المجتمع المدني كفكرة، كما أننا لا نعمّم النقد على جميع الجمعيات العاملة في الساحة الفلسطينية أو العربية.
بل على العكس، هناك جمعيات أثبتت التزامًا صادقًا بقيم المجتمع الثقافية والوطنية، ورفضت الانخراط في برامج تمس هذه القيم أو تسعى لتفكيكها تحت عناوين براقة. كما رفضت تلك الجمعيات أن تتحوّل إلى أدوات لضرب المرجعية السياسية الشرعية للشعب الفلسطيني، وواجهت الإغراءات بشجاعة، فاستمرت تعمل بإمكانيات محدودة، بعدما أُغلقت في وجهها "خزائن المانحين" لأنها لم ترضخ للمشروطيات.
أما نقدنا، فهو موجّه إلى الطابع المشروط لبعض التمويل الأجنبي، الذي لا يكتفي بدعم الحاجات المجتمعية، بل يتدخّل في تشكيل المفاهيم، وتوجيه الأولويات، بل وفي بعض الأحيان تفكيك البنى الثقافية والهوياتية للمجتمعات المستهدفة، وخلق طبقة مرتبطة بالممولين سياسيًا ومصلحيًا.
أولًا: التمويل المشروط وأثره على البنية الثقافية للمجتمع
لقد رافق تصاعد التمويل الدولي للجمعيات في العالم العربي، والفلسطيني تحديدًا، دخول برامج ذات صبغة فكرية وثقافية جديدة، تُروّج لمفاهيم "السلام"، "حل النزاعات"، "المواطنة العالمية"، و"الحداثة الاجتماعية" ضمن قوالب جاهزة. إلا أن هذه المفاهيم، وإن بدت إنسانية على السطح، غالبًا ما تأتي محمّلة برؤية خارجية لا تنسجم مع واقعنا كأصحاب قضية تحرر وطني، يرزحون تحت احتلال عنصري استيطاني.
في الحالة الفلسطينية، حين يُطلب من شبابنا "تعلم ثقافة التسامح" و"نبذ العنف" في سياق تجاهل الاحتلال، وتجريد الصراع من طبيعته الاستعمارية، فإن هذا يُعد إعادة تشكيل ممنهجة للوعي، وليس مشروع تنمية.
ثانيًا: الطبقة المستفيدة... حين يصبح المتموّل رهينة المموّل
ونتيجة الإغداق في ضخ الأموال إلى العديد من الجمعيات، تكونت طبقة مستفيدة، هي طبقة المدراء والقائمين على هذه الجمعيات. فقد ارتبطت مصالحهم ومكاسبهم المادية بالعلاقة الحسنة مع الممولين، فأصبح الثراء مرهونًا بمدى الانصياع لتوجيهات الممول وتنفيذ برامجه، ولو كانت تمس القيم الاجتماعية والثقافية للمجتمع الفلسطيني.
بذلك، لم تعد هذه الجمعيات أدوات خدمة عامة، بل تحوّلت في حالات عديدة إلى أدوات تمرير ثقافي ناعم، تستخدم لغة التنمية، لكنها تضعف مناعة المجتمع، وتفرغ هويته من مضامينه السياسية والوطنية.
ثالثًا: ضرورة الرقابة الوطنية – دور اللجان الشعبية
أمام هذا الواقع، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة تنظيم العلاقة مع الجمعيات على أسس وطنية شفافة. وهنا يأتي دور اللجان الشعبية الفلسطينية كمرجعية شرعية داخل المخيمات، وكهيئات تمثيلية تعبّر عن النسيج المجتمعي.
من هذا المنطلق، نقترح:
ربط عمل الجمعيات بمرجعية وطنية رقابية ممثلة باللجان الشعبية.
إلزام الجمعيات بمشاركة اللجان الشعبية في مراجعة البرامج والمضامين التي تنفذ داخل المخيمات.
تفعيل دور اللجان الشعبية عبر إعادة هيكلتها بشكل يضمن مشاركة عناصر مؤهلة علميًا، ومتمكنة ثقافيًا، تمتلك وعيًا وطنيًا.
إنشاء لجان تخصصية منبثقة عن اللجان الشعبية (تعليم، صحة، ثقافة، رقابة مجتمعية...).
تعزيز مشاركة الشباب والمرأة في اللجان الشعبية بشكل فاعل، يضمن تجديد دمائها ورفع مستوى الأداء.
بين المجتمع المدني والهوية الوطنية
إن نقدنا هذا لا يهدف إلى تقويض المجتمع المدني، بل إلى تحصينه من الاستتباع والاختراق. نريد مجتمعًا مدنيًا فلسطينيًا حرًا، يعمل في خدمة الناس، لا في خدمة الممول، يعبّر عن تطلعات المخيمات، لا عن أجندات العواصم البعيدة.
فكما أن مقاومة الاحتلال تبدأ من حماية الأرض، فإن مقاومة الاستلاب تبدأ من حماية الوعي. والمجتمع الذي يُنتزع وعيه، لن يكون قادرًا على الدفاع عن قضيته، مهما عظمت تضحياته.