إعلان منتصف المقال
تتعالى الأصوات المطالبة بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، في اللآونة الأخيرة، من داخل الأسوار اللبنانية الرسمية. وتصاعد الخطاب التطبيعي، من قبل ممثلين عن الشعب اللبناني في المجلس النيابي. ما أثار بلبلة واسعة، وانتقادات، لم تكن غريبة عن التاريخ اللبناني وثقافة شعبه. وبعد نشر نتيجة استطلاع الرأي، التي أنجزته "الدولية للمعلومات"، تبين أن 75% من اللبنانيين، يرون أن كيان الاحتلال، هو العدو الأول للبنان. وفي استطلاعٍ آخر للجهة القائمة نفسها على الاستبيان، فقط 11% من اللبنانيين أيدوا مشروع التقسيم، والفيدرالية. وهي صفعة ثانية، صادرة عن قرار الشعب اللبناني بوجه ما يسعى له المشروع الصهيوني، وما حاولت ترويجه بعض الجهات، من قنوات إعلامية وسياسيين.
إن طرح التطبيع، من قبل السياسيين، له دلالة واضحة على عدم الاطلاع الكافي لديهم، حول المصالح الوطنية اللبنانية أولًا، وخطر المشروع الذي شرًعه وعد بلفور ثانيًا. فموقع لبنان الاستراتيجي، والمطل على البحر الأبيض المتوسط، أعطى للبنان أهمية كبيرة كحلقة وصل بين الشرق العربي، وأوروبا، من خلال الحركة التجارية عبر مرفأ بيروت. وهذا ما حاول الكيان الصهيوني، سلبه من دور له، مستفيدًا من مرفأ حيفا في الأراضي المحتلة. والدليل على ذلك، هو الكشف عن تفاصيل مشروع للسكك الحديدية التي تربط البحر الأبيض المتوسط بالخليج، بعد أشهر من انفجار مرفأ بيروت، حيث ينطلق الخط من ميناء حيفا، مروراً بالأردن وصولاً إلى سواحل الخليج. ولطالما كانت التغذية الصهونية الدائمة للحروب الداخلية اللبنانية، من أهم أدوات الاحتلال، لإضعاف الإقتصاد اللبناني، والقضاء على قدرته في المنافسة. ومع استمرار تدهور الإقتصاد اللبناني، والأزمات السياسية والإجتماعية، فإن التطبيع مع تل أبيب، سيمثل انتصارًا حاسمًا للحكومة الإسرائيلية. عوضًا عن استحالة التطبيع بين أي دولتين، في ظل استمرار احتلال أحدهما لأراضي اللآخر.
وإذا استبعدنا النقاش من منطلقات إنسانية، يعتبرها البعض عاطفية، فإن طبيعة نشوء الكيان الإسرائيلي تقوّض أي إمكانية حقيقية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط. وإلى جانب استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية واللبنانية والسورية، والتوسع الاستيطاني المتواصل في سياق ضم الضفة الغربية، ما يؤكد بواقعية، واقع هذا الكيان، بمختلف تياراته السياسية، أنه مناقض جوهريًا لمبدأ السلام.
رغم توقيع اتفاقية كامب ديفيد، لم تتوقف تل أبيب عن السعي لتحقيق مشروع قناة بن غوريون، المُنافس لقناة السويس المصرية إذا تحقق، بعد أن كشفت وثيقة سرية تعود لعام 1963، بين الولايات المتحدة و"إسرائيل"، تتضمن إنشاء هذه القناة عبر تفجير صحراء النقب بقنابل نووية، لتجاوز التضاريس. علمًا، أن قناة بن غوريون ستكون أطول من قناة السويس بنحو 100 كيلومتر، وأن قناة السويس، تعتبر أقصر ممر ملاحي بين آسيا وأوروبا، وتمر عبرها نحو 12٪ من حركة التجارة العالمية. كما تشير التقديرات إلى أن عوائد قناة السويس قد تنخفض إلى 4 مليارات دولار سنويًا في حال تنفيذ المشروع. مع تواصل الأزمات الاقتصادية المصرية، حيث يعاني الشعب المصري من أزمات اجتماعية ومعيشية متزايدة.
لم يكن وضع الأردن أفضل حالًا، إذ لم يخلُ الحلم الصهيوني من محاولات تهجير الفلسطينيين إلى "الضفة الشرقية"، وهو ما أعلنه مسؤولين إسرائيليين في تصريحات عديدة، على الرغم من توقيع اتفاقية وادي عربة بين الأردن وتل أبيب. ولم تقتصر التجاوزات الإسرائيلية على الجانب السكاني فحسب، بل امتدت لتشمل الحقوق المائية؛ إذ عمد الاحتلال إلى سرقة المياه الأردنية من نهر الأردن، إلى جانب استنزاف المياه الجوفية في منطقتي وادي عربة والغمر جنوبي المملكة. والأخطر من ذلك، أن المياه المسروقة يُعاد بيعها للأردن، مع أن نهر الأردن، وفقًا للاتفاقيات الدولية، يعد موردًا مشتركًا بين سوريا ولبنان والأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة قبل عام 1967، دون أي ذكر لـ"إسرائيل" في تلك الاتفاقيات.
إن هذه الأحداث تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن التطبيع لن يحمل أي منفعة حقيقية، ولا يشكل حلًا سحريًا كما يحاول البعض الترويج له. فحتى السلام الذي وُقّع بين مصر وكيان الاحتلال، لم يتم إلا بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من سيناء، ومع ذلك، فقد ترتبت عليه تداعيات سلبية، ونهب منظم للموارد العربية. وبناءً عليه، فإن التطبيع يُهدد المصالح الوطنية للدول التي لا تخضع للاحتلال المباشر، فكيف يكون الحال بالنسبة للبنان، الذي لا تزال أراضٍ من جنوبه تحت الاحتلال، ومصالحه الاقتصادية تتضارب بطبيعتها مع مصالح الكيان الصهيوني؟