لم يعد الفكر اليساري عموما، والفكر الماركسي خصوصا محط اهتمام يشد قطاع المثقفين العرب وفي مقدمتهم المثقفين الفلسطينيين واللبنانيين، بعد الانتكاسة التي تعرض لها هذا الفكر التقدمي على مستوى العالم، وبعد أن وصلت قوى اليسار العربي إلى مرحلة الشيخوخة والتلاشي.
لذلك، فاليسار العربي في أزمة، وقد برز ذلك من خلاله ضعفه وعجزة وحالة الجمود التي يعيشها، والتشتت والانقسام وتراجع دوره في ميادين الصراع والمواجهة، وهذا ما أفسح فالمجال أمام الفكر الديني الذي تمكن من هزيمة الفكر اليساري واختراقه وإجباره على التراجع والانكفاء، كما أن أزمة اليسار العربي وعدم قدرة قواه وأحزابه على قيادة حراك الشعوب من أجل مقاتلة الاحتلال ومن أجل الحرية والعدالة الاجتماعية ساهمت في إعادة ولادة جديدة للنظم الليبرالية القديمة رغم حالة الاهتزاز التي تعرضت لها منذ العام 2011.
الفكر اليساري تعرض للانتكاسة، وتخلت بعض قوى ونخب اليسار العربي القديم، عن فكرها ومبادئها وأهدافها وتنكرت لتاريخها، وبدأت تتموضع على يمين اليمين، ما عزز من سيطرة الفكر الديني على الوعي والمزاج الشعبي، وأمام عجز الشعب عن تحقيق آماله وأهدافه في أوطان ومجتمعات حرة ومستقلة وعادلة، لجأ الشعب إلى السماء طالبا المساعدة والحسنات والقدرة عن تحمل العذابات والمصائب ومشقات الحياة، إلا أن الفكر الديني بدوره، لم يتمكن من معالجة قضايا الشعب والقهر والبطالة والفساد والهجرة، بل تضاعفت هذه الأزمات مع امتداج الفكر الديني في الوطن العربي، فتراجع الانتاج والمستوى التربوي وانهك الاقتصاد، وأقفلت نواة المصانع والمعامل وتحول الريف إلى مزار للعائلات وتناول الارجيلة، وشرب قنجان القهوة والسهرات العائلية، وتحول الريف منبعا للثورة والرجال والانتاج الزراعي، ووصلت أرقام العاطلين عن العمل إلى مستويات خيالية وخطيرة.
لذلك فإن الفكر الديني السياسي لم يعالج الأزمات التي يعاني منها الشعب وانطلقت من أجلها الحركات الشعبية، وأعاد النظام القديم بفساده ونهبه، هيكلة نفسه ليستمر بالتحكم برقاب العباد.
وهذا ما يؤكد أن الفكر اليساري تعرض لانتكاسة لكن جمره بقي تحت رماد العجز وعدم القدرة على التطور والابداع، وإذا كانت قوى اليسار والنخب الماركسية قد تخلت عن فكرها، وشعاراتها ونضالاتها الميدانية، إلا أن الفكر اليساري تمكن بعد الثورة الفكرية في العالمة وبعد انتصار الماركسية في روسيا من تغيير وجه العالم.
والماركسية تغلغلت في الوطن العربي منذ قرون وتشكلت أحزاب ماركسية منذ أكثر من تسعين عاما وكانت فاعلة في التطور الفكري الذي تحقق خلال كل هذه السنوات، كما كانت فاعلة في المجال السياسي وفي النشاط الثوري، وكان تأثيرها متفاوتا بين مرحلة وأخرى كما كانت تصوراتها متطابقة للواقع إلى هذا الحد أو ذاك في مراحل معينة .
لكن الفكر اليساري اليوم، والماركسي تحديدا يتعرض لأزمة، لأن القوى الماركسية حملت الفكر دون التعمق ودون المقدرة على تطويره وتطوير أساليب نضاله مع تطور العصر واستنادا لطبيعة التحديات، فتوقفت القوى والأحزاب الماركسية عند كتابات ماركس وأنجلز وماو تسي تونغ، وغيرهم من رواد الفكر الماركسي، ورددوا الشعارات ورفعوا الرايات الحمراء، ليتحولوا إلى طبقة من المثقفين الغارقين بالرومانسية والأحلام والخيال الواسع، لأن الماركسية بالنسبة لهم كانت شعارا وأحلاما ثورية وليست فعلا ثوريا وخوضا بجرأة وقوة بميادين الصراع، وكانت الماركسية لبعض نخب وقوى اليسار"موضة" وابنة عصرها، وماتت مع موت أبيها وأمها في موسكو وبكين.
هزمت الماركسية وهزم اليسار، لأن معظم من حمل هذا الفكر، كان لا يعرف من الماركسية إلا القراءة، ولم يتمكن من تحويل الفكر الماركسي من شعار ثوري إلى فعل ثوري لاستمرار تطور التاريخ وحراكه.
تراجع الفكر اليساري وهزم أمام المد الطائفي لأن القوى والأحزاب والنخب لم تتمكن من تقييم ذاتها ومسارها والتوقف عن أسباب انتكاستها وشيخوختها، وضعفها لتصل إلى أدنى مستوياتها في صفوف الشعب وتراجع دورها في الميادين وساحات النضال والثورة والمقاومة، وتراجع انخراطها في ثورات الشعوب من أجل العدالة والحرية ولم تنخرط بصفوف الشعب لتعمل على تطوير النضال وإزالة الشوائب وقيادة المرحلة .
تخلى البعض عن تاريخه وفكره ودماء الشهداء الذين سقطوا خلال سنوات النضال، وأصبحت الماركسية بالنسبة له شعارات وكتب وأدبيات تتردد في الصالونات الثقافية، بل أصبح نضالهم والمعارك البطولية "تاريخ من الماضي".
حقيقة الأمر أن اليساريين العرب ومنهم طبعا الفلسطينيين واللبنانيين لم يتمكنوا من تطوير الفكر وأساليب النضال ليشكلوا الطليعة في ميادين المواجهة، ويؤدون اليوم عملهم على يمين اليمين.
فالشعوب تحتاج لقيادات وقوى صلبة وثائرة، لا تتردد وتهاب ميادين الصراع، ولا تبخل في التضحيات، تحتاج لقيادات وقوى تنظم صفوفها وتحشد طاقاتها لقتال العدو الذي يحتل الأرض ويستمر في تصعيد عدوانه .
والشعوب التي تنادي بالحرية والعدالة الاجتماعية، تحتاج لقيادات وقوى تقود نضالها وحراكها من أجل التخلص من الفساد والنهب والفقر والهجرة والبطالة والغلاء، فمن يمكن له أن يقود نضال الشعب من أجل تحقيق كل ذلك؟
تعرض الفكر اليساري بسبب عجز نخبه وقواه إلى انتكاسة أدت إلى ضعفه وتراجع دوره في الميادين ، لكن الفكر اليساري كان الأكثر أخلاقا وتضحية وشهامة ودعوة للوحدة ووقف الانقسام والأكثر دفاعا عن مصالح الشعب وأهدافه في الحرية والعدالة .
إذن، لابد من فهم جديد للماركسية، لابد من عودة إلى الماركسية باعتبارها منهجا ورؤية عملية، بغض النظر عن كل النصوص والتصورات والأفكار التي طرحت في زمان ومكان محددين، ولا شك أن المنهجية الماركسية هي وحدها التي تحدد قيمة النصوص، لأنها تحدد مدى جدارتها في التحول إلى قواني، على ضوء مقدرتها على فهم الظروف الواقعية وتحديد التصورات المطابقة لها.