لم يعد من الممكن قول كلمة الحق الا و يُحسب لها الف حساب . فحرية الكلمة
في بلادنا عملة نادرة لا يسمح بتداولها ، لانها تقع على مسامع الطغاة اقوى من
من الرصاصة . الحاكم العادل هو من لا يخشى النقد و لا يرتعد من كلمة الحق و ليس لديه
مشكلة في التقاضي حتى امام رجل من عامة الناس . الحاكم العادل لا يستخدم سلطته
و عسكره و رجال استخباراته في مواجهة من ينتقد سياساته و لا يبطش بكل
من لا يعجبة ادارته و سطوته و استبداده . لقد ذهب زمان عمر الفاروق الذي استمع لرجل
من عامة الناس قد قال له : لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا . لكن الحاكم العادل الذي
يعرف ما له و ما عليه قال : لا خير فيكم إن لم تقولوها ، و لا خير فينا إن لم نسمعها .
"يا عمر ، كنت تدعى عُمَيْراً ، ثم قيل لك عمر ، ثم قيل لك يا أمير المؤمنين .. فاتّق
الله يا عمر .. فإن من أيقن بالموت خاف الفوت ، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب"
كلمات قالتها الصحابية خولة بنت حكيم التي سمع الله عزوجل لقولها من فوق سبع سنوات .
اصغى لها امير المؤمنين ،القائد الذي كان لتوه قد اخضع اكبر قوتان على وجه الارض .
استمع بانتباه و لم يرفع رأسه في وجهها و لم يعنفها او يؤمر اتباعه بنشرها ، بل فاضت
عيناه بالدموع . ذهب الزمن الذي يتقاضى فيه امير المؤمنين علي كرم الله وجهه مع
رجل يهودي كان قد سرق درعه . يقف علي و اليهودي امام قاض عيّنه هو بنفسه فيحكم
القاضي لليهودي لان الامير ليس لديه شهود الا ابنه و لا تصح شهادة الولد للوالد.
ثم بعد صدور الحكم ، و بعد ان رأى اليهودي عدل الاسلام اعترف بان الدرع
درع أمير المؤمنين و دخل في الاسلام . عندما كان الحق هو المهيمن و كان
العدل هو الرائد سادت الامة و انتشر دين الحق حتى تجاوز كل الحدود :
إِذا خَـــانَ الأميرُ وكاتباهُ ..... وقاضِي الأَرْضِ داهَنَ في القَضاءِ
فَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلُ ..... لِقاضِي الأَرْضِ منْ قَاضِي السَّــمــاءِ
و لما اشرأبت اعناق الطغاة بدأ الفساد و دخل الاستبداد و تراجعت الدولة
الواحدة الموحدة ، ثم تفككت الدولة و اصبحت دويلات و لكل دولة جلاوزتها
و مجرميها ، و امتلأت السجون باصحاب الضمائر الحية و الكلمة الصادقة
و نصبت المشانق في طول البلاد و عرضها و اخليت الساحات للفاسدين
المفسدين من قضاة و ضباط و اعلاميين و رجال اعمال و سياسيين و اقتصاديين .
حتى وصل الامر بنا الى عصر "المنشار" ، فكل مطالب بحقه و حق شعبه و كل
من ينتقد سياسات النظام بل و كل من يصمت و لا يمتدح المستبد فهو في هذا العصر
خائن للوطن مستحق للعقاب و مرتبط بجهات اجنبية و ليس له الا المنشار ، او
في أحسن الاحوال الاعتفال او النفي او التنكيل به و بعائلته و معارفه بل و بمن
طرح عليه السلام . هذا اذا عرف مصيره و مكان حجزه . و في هذا التنكيل
يتساوى الشاب مع الكهل و الرجل مع الانثى و الغني مع الفقير و البروفيسور
مع الطالب في المرحلة الاعدادية و الطبيب مع العامل و الشيخ مع المريد .
الكل سواء تحت جنزير المنشار الذي لا يعرف الرحمة و لا يأتمر الا بأوامر
ضباط المخابرات و اسيادهم ، و كل جسد بشري عرضة للتقطيع الا من خضع
إعلان منتصف المقال
للطاعة العمياء ، الطاعة التي يكون فيها الناس " صم بكم عمي فهم لا يعقلون" .
حتى السيدات القريبات من الانظمة فقدن تلك الميزة التي وهبها لهن الله عزوجل
ميزة الرقة و الرأفة و الرحمة ، فهذه وزيرة الهجرة المصرية تتوعد المعارضين
بقطع رؤوسهم . تتحدث بهذا في بلد غربي ، فكيف يكون الامر في بلدها؟
و تلك السيدة اللبنانية الغارقة في بحور العنصرية تدعو لبناء افران شبيهة
بافران النازية حتى يقتل بها اللاجئين الفلسطينيين . و برلمانية في بلد عربي
ترفض حديث المنظمات الدولية عن انتهاكات لحقوق الانسان في بلادنا .
اما محترف المنشار ، الاعرابي الجلف القادم من صحراء نجد ليعتلي كرسي
لا تنبغي له و لا لآبائه و اجداده من قبل فانه جاهز لفعل اي شئ ليس ضد
معارضيه فحسب بل ضد من لا يمدح نظامه بما فيه الكفاية ! فمن التهم التي
يحاكم عليها الشيخ سلمان العودة و التي من الممكن ان يحكم عليه بالاعدام تعزيرا
بسببها انه لم يمتدح النظام و العائلة الحاكمة بما فيه الكفاية ! فظ جاهل غليظ
القلب يحشر العلماء في المعتقلات و يعذبهم و ينتهك انسانيتهم و يقود البلاد الى
كل اشكال الفساد و الارتباط الصريح بالعدو الصهيوني بعدما كان هذا الارتباط
من خلف الستار . يبعثر الاموال هنا و هناك في خدمة الصهاينة و مشاريعهم
و في خدمة امريكا و مخططاتها ثم نجد من يدافع عنه من على المنابر بل و من فوق
اطهر منبر على وجه الارض في مكة المكرمة ! لم يتعلم المنافقين من مواقف الامام
احمد في وجه الملوك من بني العباس و من قبله الامام ابو حنيفة النعمان عندما
وقف مع الحق خلال ثورة زيد بن علي و من بعده في ثورة محمد النفس الزكية .
لم يتعلم هؤلاء من الامام العزبن عبد السلام عندما انبرى و من على منبر الجامع
الاموي يهاجم الصالح اسماعيل الذي تعاون مع الصليبيين و تحالفه لهم ضد المسلمين .
هكذا يكون العلماء في كل عصر و هذا دورهم في اظهار الحق مهما كانت التداعيات
و هكذا تكون الاقلام النظيفة التي لا ترتهن من اجل حفنة من الدراهم او من اجل مركز زائل .
قالها الرجل الذي نشر في قنصلية بلاده : قل كلمتك و امش . لكنه لم يتمكن من قول الكلمة
و ينجو بنفسه بل استدرج الى كمين محكم كان فيه هلاكه . اما الاعداد التي لا حصر لها
و التي قالت كلمتها او حتى لم تقل ثم وقعت في شرك هؤلاء الحكام الطغاة فإنهم احرار
إن كانوا في قبورهم او في معتقلاتهم اما العبيد الذين يريدون توريث العبودية لابنائهم
و للاجيال القادمة فإنهم ارقاء للحكام و لا يحترمون انفسهم و لا يحترمهم كل شريف
يعرفهم . انهم على الهامش بلا قيمة حتى لدى من يوظفهم ، و سيكون مصيرهم المنشار
على يد اسيادهم عندما تتعارض المصالح .
ماهر الصديق