لم تكن رحلة اللجوء الفلسطيني والخروج القسري الذي رافق عمليات القتل والاجرام التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، في أعقاب نكبة فلسطين الكبرى عام 1948، المأساة الوحيدة التي أثقلت الشعب الفلسطيني، وحولت مسار تطوره التاريخي، من العيش كسائر شعوب الأرض في دولته، وبين حقوله وسهوله وجباله وعلى شواطئ بحره، بل كانت المحطة الأولى، في رحلة الآلام والقهر والعذاب، التي أجبر الشعب الفلسطيني على السير فيها مرغما، وأن يعيش تفاصيلها الصعبة على إمتداد أجيال منذ ذاك التاريخ وحتى يومنا هذا.
فالشعب الفلسطيني فقد كل ما يملك، معنويا وماديا على أيدي الصهاينة، وتحول بعد جولات الرقص الصاخبة، على أنغام الصهيونية والامبريالية العالمية، الى شعب بلا وطن، في واحدة من أشنع حفلات التنكر العالمية، التي شارك في إحياء برنامجها الدموي، ممثلون عن دول كثيرة، كانت الأقنعة الجميلة، شفيعة البعض من الأصدقاء قبل الأعداء، ،ومشتت في اصقاع الأرض، ولاجئ في دول، حكم الإمتداد الجغرافي والارتباط التاريخي، الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، على بعض الدول منها، أن تكون موطئ القدم الأول، لمسيرة الدمع والدم، التي نحت على دربها، آثار آلاف الاقدام الحافية، التي تاهت كأسراب النوارس المبعثرة فوق المحيطات، لتكن تلك الخيام البيضاء، المرقعة "بكرم الأمم المتحدة وطيب خاطرهم"، المنزل الأول بعد رحلة السراب الفلسطيني، والتي ردد تحت إنحنائها الوسطي، " كم من منزل في الأرض يألفه الفتى... وحنينه أبدا لأول منزل!!!
وجد الشعب الفلسطيني نفسه، في تلك الخيم، التي راحت شيئا فشيئا تتحول الى مخيمات لم يعلم ولم يدر إلى ذهنه ولو لمرة واحدة، أنها ضمن بنود تلك المؤامرة التاريخية، وأنهم يريدونها القدر المحتوم والسجن المفتوح، الذي يحتوي، الآلاف من الأسماء والاعمار والأحلام والطموحات، التي راحت تتبخر مع إشتداد حر كل صيف جديد، بعيدا عن جبال الكرمل، وتغرق في منسوب المياه الزائد، مع كل فصل شتاء جديد، بعيد عن كروم حيفا ويافا وعكا والقدس.
كانت المخيمات الفلسطينية ومازالت، محطة للزائرين، والآتين من خلف البحار، الراغبين بالبحث عن ما تبقى من هؤلاء الفلسطينيين، الذين تكدسوا في تلك الكيلومترات البسيطة، وذو القدرات العجيبة، على التكيف والتأقلم، في العيش من دون ضوء، في تلك المخيمات المسقوفة بخرائط الشبكات الكهربائية، الممزوجة بخراطيم المياه، والتي تشكل مجتمعة، لوحة من أشنع ما أنتجته فوضى الفنون التشكيلة، إلا أنها الأكثر مبيعا، بفعل القصص التراجيدية التي ترافقها وترتبط بوجودها وإستمرارها، هؤلاء المهندسين الاكفاء، ذوي القدرات الحسابية الدقيقة، التي تعنى بحسابات البديهة " للميليمتر"، اثناء السير في ذاك الزقاق بصيغة المثنى، واثناء العبور من هذا التقاطع الى ذاك، فاللمس بالجدران قد يكلف الحياة، وينهي أحلام طالب متفوق بصعقة كهربائية، أما ما يتطلب حنكة حسابية فريدة في معادلاتها وطرق إحتسابها، فهي تلك التي تعنى بمسيرة الأموات، التي تطلب معرفة الخوارزمية والأينشتانية، لحساب العرض والطول والعمق والذرة، ليخرج ذاك النعش بسلام وأمان.
أما فيما يتعلق بالمهارات الرياضية والفنون، فلقد طورها الشعب الفلسطيني اللاجئ في هذه المخيمات، وراكم خبراته فيها، ونقلها لأجياله، فقد أصبح محترفا في الركض والوثب، التي تفتتح مواسمها الرسمية، مع كل شتاء، ومع إشتداد كل عاصفة، عندما تتحول الشوارع الضيقة، والازقة المظلمة، الى برك صغيرة ومستنقعات مستديرة، تحتاج لجميع تلك المهارات، لكي تستطيع النجاة بحذاء جديد، أو سروال وقميص موسمي، يعول على أن يكون فاتحة خير، لرحلة البحث عن عمل، خارج تلك الاسوار العالية والشائكة، وربما في بعض الأحيان، يكون للعوم وسباق الغطس، للبحث عن فوهة لشيء أشبه ببالوعة ماء صغيرة، تسمى على ذمة بعض القاطنين في تلك الازقة، بحفرة لتصريف مياه الصرف الصحي والشتاء، نصيبا من موسم الأولمبياد في داخل المخيمات الفلسطينية.
للفرح والإحتفال، أسباب وبنكهة خاصة لأهل المخيمات، فأصوات المفرقات وألوانها، قد تزين سماء المخيم، مع دخول كيس من الاسمنت، وبضع أمتار من الحصى والرمل، لترميم سقف منزل آيل للسقوط، وتكون سببا في قرع الطبول وإطلاق الأهازيج، بين سكان الزقاق المهدد بالدمار، فالمصيبة لا تقف عند حدود المنزل الواحد، بل تتعداها لتطال عشرات البيوت، والمحلات المكدسة فوق بعضها، كيف لا والشعب الفلسطيني، تقاسم جميع المعاناة والآلام، وتجرعها مجتمعا، وتنقسم الافراح والاحتفالات بين متوسطة وصغيرة، فبعض الافراح تكون متواضعة، بفعل عامل الألم الذي يحيط بها، فعلى سبيل المثال، يحزن أهل الفقيد على فقيد المخيم، إلا أن ما يواسيهم في بعض الأحيان، ويطيب خاطرهم، دخول بعض الحجارة، التي تستخدم لبناء المسكن الأخير، لهذا الذي ينظر إليه كرقم نقص في معادلة الحساب، التي تضرب وتجمع وتقسم، لتصل الى معادلة الصفر في جدول حساب البعض...، وهكذا يعيش الفلسطيني اللاجئ مشاعر الفرح والحزن معا، في تراجيديا فريدة من نوعها، لا تقدم إلا على خشبة المسرح الفلسطيني، المحاط بجمهور من البائسين ذوي الابتسامات الصفراء.
أما المهرجانات، التي تستدعي فرقا لعزف الموسيقى وترداد الهتافات، تكون إذا ما مر ذاك الفلسطيني، دون توقف أو أزمة سير خانقة، تسلب من وقته ساعات من الانتظار، يشعر فيها اللاجئ، بأنه المتهم الوحيد، في هذه الأرض، عن خراب الطبقات السفلية، والثقوب التي فتحت في طبقة الأوزون، وسبب تهيج البراكين والاعاصير التي تجتاح جزرا ومدن، فالوصول الى المنزل دون تأخر، عبر تلك البوابات والحواجز، التي تحيط بالمخيم برقابة مشددة، وبإجراءات عجيبة، تشبه الفوز في مسابقات ربح الملايين، خاصة وأن تلك الورقة الزرقاء، شاحبة اللون، مهترئة الأطراف، بفعل حجمها الغير مناسب، لقياسات المحافظ العالمية، ولقياسات الجيوب المعترف بها، لم تدل على أن صاحبها، من الضالين، فيتنهد اللاجئ الصعداء، بعد دقائق من ألقلق، وهو يشاهد عملية الفحص والتمحيص، باسم الأم والأب والعائلة والرقم والختم وجودة الورق...ليقول في سره بعد سلسلة من الادعية "آمين".
لا يفوتنا التطرق الى فن الطبخ، الذي يرافق الأحاديث الصحفية، والتصريحات، ومخيلات جهابذة بعض السياسيين والأحزاب الحاقدة، على هذا الشعب ومخيماته، فالفلسطيني هو "الشيف"، لجميع تلك الوجبات التي توضع على مائدة التحليل السياسي، لموائد يمدها البعض، ليستعرض مجموع تلك الأطعمة السامة، التي يتهم الفلسطيني في إعدادها، غير أن الوعاء الفلسطيني، لا يستخدم الا لحمل بعض علب " السردين" وبعض الأكياس من السكر والحبوب، وبعض الزيت، كما تستخدم كآلة موسيقية لأطفال، لم يجدوا ما يقرعوا عليه سوى تلك الاواني الفارغة، التي تصم الأصوات المحرضة ليل نهار، على اللاجئين ومخيماتهم آذانهم عنها، كيف لا وهم من اعتادوا سماع أنغام الملاعق المرصعة، على موائد الشرف في هذه الفنادق او تلك القصور..
أما "السحر وألعاب الخفة" فلها نصيب من سلة المهارات والمواهب الفلسطينية، فاللاجئ الفلسطيني الذي يزين شاشات الفضائيات، ويشكل العنوان الأساسي، للكثير من الأقلام والصحف، إذا ما أطلقت طلقة في سماء المخيم، أو في حالة أي إشكال فردي طبيعي، قد يحدث في هذا المخيم او ذاك، يختفي بمهارة عجيبة إذا ما تعلق الامر بإنجاز أكاديمي، أو علمي او طبي، ويطير من تلك الشاشات إذا ما ارتبط اسم الفلسطيني بمبادرة إنسانية، او حملة اجتماعية، او مساهمة اقتصادية، وهذا ما جعل من الفلسطيني نجم التخفي الأول على مسرح بعض الساسة المجحفين.
أما للفنون، فحدث ولا حرج، فالشعب الفلسطيني العجيب غريب الاطوار، يحول كل ما يحيط به للوحة فنية، تذهل هؤلاء الزائرين، الآخذين لأنفسهم مئات الصور التذكارية، بين تلك الجموع المهددة بالانقراض، فريشة اللاجئ في المخيم ترسم بمهارة التلميع والتحايل، على الألوان القاتمة الرمادية، لتصنع من جدار اسمنتي طويل يتراقص كثعبان صحراوي على كثبان الرمل الفلسطيني، لوحة للحياة والامل، لوحة تزهو بألوان العودة، والنصر القادم، الذي يحاول بعض فنانو الأقبية السوداء، رسمها بألوانهم القاتمة، وتشويهها وتصويرها كفزاعة، تقف في وسط محصول الذرة، الذي ستهاجمه ألغربان وفق أساطيرهم الكاذبة، فاللاجئ الفلسطيني، رسم أولى لوحاته البطولية بدمائه، في معارك العودة، ومعارك إستعادة الحق المسلوب، ووطن مسروق إنطلقت من تلك المخيمات
التي أرادوها سجونا... وأرادها جسورا للعودةّ!!
لا يخفى على أي مراقب، لأوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، حجم المعاناة والمآسي، التي يعيشها اللاجئ، بفعل بقاء تلك المخيمات خارج زمن التطورات، على حالها منذ السنين الاولى لنشأتها، لا تصلح مكانا للعيش البشري، فهذه المخيمات التي تحتضن آلاف اللاجئين، ليست الا مساحات للعذاب والمعاناة ، تضم بمفهوم البعض الحاقد ارقاما أمنية، يتم التعاطي معها وفق الحسابات الداخلية، وفي دهاليز التوظيف والمناكفات السياسية هنا أو هناك، بل تشكل المخيمات وورقة اللاجئين رصيدا ثريا، يدفع في الاوقات الصعبة، على يد البعض الذين لا يعرفون عن المخيم وعن اللاجئ، الا تلك الصورة النمطية التي رسموها في مخيلتهم، فالعزف على نغم العنصرية، ضد اللاجئين يطرب البعض، وينتشي به الاخر، لما يحققه من ثقة زائفة بالنفس، في معارك الدفاع عن الوجود ضد التهديد الخارجي الخطير.
فاللاجئون الفلسطينيون، الذين دفعوا ثمن تمسكم بحق عودتهم الغالي والنفيس، والذين خاضوا جميع معارك الدفاع عن الوطن، وعن حقهم في تحريره، ما زالوا، مهمشين على أجندات العمل السياسي والقانوني في لبنان، وهي المعاناة والمأساة القديمة الجديدة، والتي بدأت بسلسلة القوانين التي تمنع الشعب الفلسطيني من العمل، في أكثر من 70 مهنة حرة، بالإضافة لمنعه من حقه في تملك مسكن أو حقه في التوريث، والتي لم تنته بالإجراءات التي اتخذتها وزارة العمل في الحكومة اللبنانية المستقيلة ضد العمال وأرباب العمل الفلسطينيين، الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها في دائرة الاستهداف في لقمة عيش أطفالهم، وفي مستقبلهم، الامر الذي أشعل الشارع في المخيمات، كرد فعل غاضب عن التراكم في استهداف اللاجئ الفلسطيني، بجميع عناصر قوته وصموده، وكأن المقصود من إجمالي تلك القوانين والقرارات، هي دفع اللاجئ الى المجهول، في رحلة معاكسة جديدة، وفصل جديد من رحلة الآلام والمعاناة، دون الاكتراث للوضع السياسي، الذي يحيط باللاجئ الفلسطيني باعتباره جزء لا يتجزأ من شعب يناضل مجتمعا، في سبيل انتزاع حقوقه الوطنية، في معركة تحرر وطني لم تنته بعد.
إن إصرارا البعض على التعامل مع المخيمات الفلسطينية، على أنها سجون لأرقام أمنية، لا تعامل الا من الزاوية الأمنية، لا يمكن الا أن تفاقم أزمة اللاجئين الحقيقية والخطيرة، ولا يمكن أن تصب الا في خدمة المشاريع التصفوية، لنضال الشعب الفلسطيني، وقضيته الوطنية، "كصفقة القرن" الامريكية وغيرها على امتداد سنين النضال الفلسطيني، وهذا لا يمكن ان يكون في صالح أحد، خاصة الدول المضيفة للاجئين الفلسطينيين، إذ أن التعاطي مع اللاجئ الفلسطيني، لا يمكن أن يكون في الاطار الصحيح، الا من خلال التقدم نحو تلك المخيمات، وتحسس آلامها وأوجاعها، والاصغاء الى معاناتها، والعمل بشكل مشترك، وبما تتيحه الإمكانيات، على معالجة جميع تلك الملفات، على قاعدة التمكين والدعم، للاجئ الفلسطيني حتى يتمكن من الصمود، والحفاظ على مخيماته ومحيطه، من خطر الاستهداف والتفجير، الى حين تمكنه من إنجاز مشروعه الوطني، وانتزاع حقوق المشروعة، في إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران من العام 1967، بعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الى الأراضي التي هجروا منها عام 1948 وفقا للقرار الاممي 194، هذا هو السبيل الوحيد، الذي يستطيع أن يحصن الجميع، ويمكن الكل الساعي لانهاء ملف اللاجئين، للتفكير بطريقة مشتركة لايجاد القواسم العملية، التي تمكن الجميع من تجاوز، جميع تلك المعوقات، لكي تتمكن تلك المخيمات أن تلعب دورها الفعلي كجسورا للعودة، بعيدا عن الاسلاك والجدران..
جهاد سليمان / إعلامي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين - لبنان