قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يخاطب مكة يوم هجرته الى المدينة :
" والله إنك لخير أرض الله وأحب أرضٍ إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني
ما خرجت منك " . الاوطان اغلى من الانفس ، و لو ان الكرامة توفرت
في الوطن ما ترك عاقل وطنه مهما كانت الظروف . في مسقط الرأس
تكمن ذكريات الطفولة و ايام الصبا ، هناك حيث التصقت الروح بالارض
و فاضت المشاعر بواقعية الحياة في حلوها و مرها . على تلك الارض
ترعرع الجسد و معه الماضي و احلام المستقبل و التصق الخيال في كل
شئ : في نسائم الزهور ايام الربيع ، و في رائحة الارض و اصوات الرذاذ
على الاسطح في الشتاء ، في جمال الطبيعة الخريفي و اتساع وقت
النهار و اجتماع الكبار على قوارع الطرق . و في الصيف حيث يجتمع
الناس في الباحات و تمتلئ المنازل بخيرات الاراضي و تكثر المناسبات
السعيدة و الاعراس ، و فوق كل هذا كان الانعتاق المؤقت من المدارس .
كل شيئ في الوطن رائع و اروع ما فيه ناسه في طيبتهم و في جودهم و عزة
انفسهم و شهامتهم و ابتساماتهم ، كل شئ هنا يؤكد ان للحياة قيمة ، و ان
الحياة ليست اموال و سيارات و منازل فارهة ، الحياة ليست رفاهية لا منغصات
فيها ، بل الحياة مزيج من كل شئ و اعلى و اثمن ما فيها كرامة الانسان .
اما عندما تداس كرامة الانسان في وطنه فيضطر المواطن للبحث عن بدائل
تسلخ جسده عن الوطن الذي احب . يحمل الوطن في قلبه بكل ما فيه من
ذكريات جميلة و اليمة ، يبقى الوطن في الذاكرة المتوقدة ، كما بقيت مكة
في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم و هم في الحبشة حيث يعيش اجناس
يختلفون عنهم في اللغة و العادات و الدين و في كل شئ عدا الانسانية التي
تجمعهم و العدل الذي يميز النجاشي عن الجور الذي كان عند زعماء مكة .
لا يمكن لعاقل سوي ان يدير ظهره للوطن الام عندما يستقر في وطن آخر ،
و لو توفر الحد الادنى من العيش الكريم في الوطن لما بقي احد في غربته .
و لا يمكن ان يتوفر العيش الكريم الا في ظل نظام عادل ، هذا النظام الذي
يجب ان يسعى اليه كل مخلص حتى لا يستنزف الوطن ابنائه ، و حتى لا تبقى
الاوطان الا لعملاء الصهيونية و الماسونية و من جارهم و سار معهم و استسلم
لرغباتهم و لمن باعوا دينهم و كرامتهم و مستقبل الاجيال لحاكم فاسد مستبد .
الوطن ليس النظام .. الوطن ليس الحاكم .. الوطن ليست العائلات المتوارثة
للحكم .. الوطن ليس الحزب الذي يبتلع البلاد و يفرض سطوته بالحديد و النار.
الوطن هو مجموعة الناس الذين بنوه ابا عن جد و اقاموا فيه و احبوه و دافعوا
عنه ، هو مولدهم و باطن ارضه مأهواهم عند الموت . الوطن هو المحبة
و التكاتف و الوحدة و التكافل ، الوطن هو الحرية و العدالة و الكرامة ، هو
الماضي و الحاضر و المستقبل . لا يمكن ان يكون الوطن عبارة عن المزيفيين
للتاريخ قطاع الطرق الذين يسلبون خيراته و يسطون على الحكم بالاكراه و القمع.
تبقى الاوطان لاصحابها مهما تباعدت المسافات و الازمان ، و مهما مرت عليها
من الهموم و المحن ، و مهما تكالبت عليها قوى الشر و عملاء اليهود .
رحم الله الشاعر إذ يقول : بلادي و إن جارت علي عزيزة ... أهلي و إن ظنوا
علي كرام . الاوطان لا تشترى او تباع ، و ليست اختيار و رغبات ،انها ماض
و حاضر و مستقبل . و اغلى ما في بلادنا قداستها ، انها مواطن الانبياء
عليهم السلام ، و مهوى قلوبهم ، في هذه البلاد يرقد الانبياء و الصحابة
و الاولياء و الائمة و الصالحين . هنا في باطن الارض آباؤنا و اجدادنا
و احباؤنا ، هنا يتواجد من احببناهم و احبونا ، و عشنا معهم حلاوة الحياة
و مرها ، و هنا نأمل ان تسعنا باطنها ان لم تحتملنا ظاهرها . رحم الله
ابي تمام إذ يقول :
نَقِّلْ فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِن الهَوى -- مالحُبُّ إلاّ للحَبيبِ الأوَّلِ
كَمْ مَنزِلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفَتى -- وحَنينُهُ أبداً لأوَّلِ مَنزِلِ