كانت منطقة الفاكهاني في بيروت تحتوي على مراكز القيادة و الاجهزة الامنية
الفلسطينية المختلفة . و كانت تطبع هناك الصحف و النشرات و البيانات التي
تنتقد القيادة من القائد العام إلى أصغر مسؤول . اما الراحل أبو عمار فقد كان
يفخر بهذه الحريات و يقول : نحن نمتلك الديمقراطية في ظل غابة البنادق .
لكن تبقى هناك مشكلة لدى البعض ممن لا يحتملون أن يقترب أحد من قياداتهم
مهما ارتكبوا من أخطاء ، هؤلاء ترعرعوا على الارتباط بالشخص اكثر من
ارتباطهم بالقضية و انصياعهم لحزبهم مهما كان اداءه السياسي و المسلكي
و الفكري . ان الشخص في مفاهيمهم الضيقة منزه و مقدس و لا يمكن أن يطوله
النقد . و هم في كل ذلك مخطؤون دون أن يدروا بأن النقد لا ينقص من قيمة
الشخص المنقود إلا إذا كان الشخص نفسه غارق بالمفاسد . أما إذا اجتهد و أخطأ
فسوف يوجهه النقد حتى لا يستمر في خطئه و حتى يصوب مساره ، و من غير
النقد فإنه سيستمر في غيه إلى ما لا نهاية مادام لم يواجهه أحد من الناس .
إن شيوع النقد في المجتمع هو دليل صحة المجتمع و ان أفراده احرار في التعبير
عن آرائهم فيما يتعلق بمن يحكمهم و يدبر شؤونهم . و ان غياب النقد دليل على
فساد المجتمع و فساد المسؤولين . ماذا يساوي المسؤولون مهما كانت مراكزهم
بأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الذي كان يقول : رحم الله امرء أهدى الي عيوبي .
هذا العظيم الذي بعهده تحطمت أعظم امبراطوريتان في ذاك الزمن ، و الذي حكم
مسافات شاسعة من الأرض و الذي اعترف الأجنبي قبل العربي بعدله و حلمه و عبقريته .
سأل يوما مجموعة من الصحابة ، قال لهم : ماذا تقولون لو أن اميركم شذ عن الطريق
القويم ، فقام له رجل من العامة و قال : لو زحت عن الطريق المستقيم لقومناك بسيوفنا !
تلقى أمير المؤمنين هذا الكلام بصدر رحب و عقب : لا خير فيكم أن لم تقولوها
و لا خير فينا أن لم نسمعها . علينا أن نرتفع قليلا عن تقديس الأشخاص و نعلم انهم
مهما كانت مسؤولياتهم و مناصبهم فإنهم يصيبون و يخطؤون و يجب أن يجدوا
من يصوبهم عند الخطأ . لقد عانينا كثيرا من تسلط الأفراد و تنزيههم بالرغم
من ممارساتهم ، و أحيانا جرائمهم . و عادة ما ينبري الرعاع من الاتباع بالتصدي
و تصدر المواجهة و ليس القادة انفسهم ، لان كثير منهم يفهم لغة النقد و يدري ماهيته
و فوائده . كان الصالح أيوب ملكا على مصر و كان ذا مهابة كبيرة و مجاهدا أيضا ،
فهو من حرر القدس من أيدي الصليبيين بعد أن سلمت إليهم بخيانة بعض الحكام
من أقاربه ، بعد ان خاض معركة غزة الخالدة في 17 تشرين الاول عام 1244 ،
ثم جهز لمواجهة الحملة الصليبية السابعة بقيادة الملك الفرنسي لويس التاسع .
في أحد الأيام دخل الامام الكبير العز بن عبد السلام على نجم الدين ايوب
في القلعة يوم العيد وهو في كامل زينته، وجنوده بين يديه فناداه باسمه المجرد :
يا أيوب ما حجتك عند الله إذا قال لك : ألم أبوِّئ لك مصر فتبيح الخمور؟
فقال : هل جرى هذا؟ فرفع الشيخ صوته وقال: نعم الحانة الفلانية يباع فيها الخمور
وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة فقال : يا سيدي هذا ليس
من عملي أنا ، هذا من زمن أبي ! فأجاب الشيخ:
أنت من الذين يقولون: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}
فأمر الملك باقفال الحانة و منع الخمور فورا في مصر و القصاص من المتاجرين .
ليس هناك من هو فوق النقد إلا الأنبياء المعصومين ، أما أنا و انت فإننا نخطئ بقصد
أو بغير قصد ، و يجب أن نجد من يرشدنا في حال الخطأ . كان الإمام الكبير
مالك ابن أنس يقول : كل منا يؤخذ منه و يرد عليه إلا صاحب هذا القبر .
و يشير إلى قبر النبي عليه الصلاة و السلام . انها مصيبة من أكبر المصائب
اذا لم يتسع صدرنا للآراء المخالفة ، لأننا سنبقى رهينة أقوال و أفعال المتخلفين
الذين لن ينهضوا بشعبنا أو بامتنا بل يرسخوا تخلفهم و يمارسون استهتارهم مادام الناس
صامتون ، و لم يجدوا من يردعهم و يصوب أخطائهم . ان الذين يتصدون للمواقف
الناقدة ليسوا باكثر من جهلة يرفضون تطور شعبهم و يرضون بالواقع المريض .
و كثير منهم يتزلفون الحاكم او الزعيم ليتقربوا منه و ليكونوا من المستفيدين من المال
العام ، و من المتسلقين في الوظائف التي تناسب غيرهم و لا تناسبهم . و هم بهذا معاول
هدم بدرايتهم او بجهلهم ، فالزعيم لن يخلد و الظلم الحقيقي سيقع على الاجيال القادمة
التي تنشأ على النظم القائمة على الفردية و الارتجال و الاستبداد . للاسف ان الواقع
هذا قد زال من معظم المجتمعات في العالم ما عدا مجتمعاتنا العربية التي لا زالت
تحمل عقلية الطاعة العمياء لشيوخ القبائل ، و عقلية المشايخ الذين يلوون اعناق
الاحاديث حتى تناسب الزعماء المستبدين و حتى تستمر الفردية و التخلف و القمع .
انهم استنساخ لشيوخ المعتزلة الذين زينوا للخليفة العباسي المأمون افكاره الباطلة
فكان الضحايا هم العلماء و الائمة كالامام احمد ابن حنبل رحمه الله و الامام ابن نوح .
الاقلام المأجورة لا ترحم و جاهزة لقلب الحقائق و الصيد بالماء العكر للنيل من المخالفين
و التحريض عليهم ووصمهم بكل نقيصة و تهمة ، و ربما يصل الامر معهم لاتهام
الخصوم بالعمالة و الارتهان للقوى الخارجية فيما هم انفسهم يقومون بتلك المهمة .
نحن ابناء الشعب الفلسطيني اصحاب قضية مقدسة و كبيرة و ليس هناك فلسطيني
واحد لم يتأثر بالاحتلال ان كان في الداخل او في الخارج . الذين في الخارج
يعانون من تبعات الاحتلال في ظروفهم القاهرة التي يعيشونها في بلاد الشتات
و في الداخل يعانون من التنكيل الصهيوني و من القتل و الاعتقال و الهدم و التهويد .
و عندما يتحدث قائد شيئا يجب ان ينتبه لتداعياته و تأثيراته السلبية و الايجابية،
لانه لا يمثل نفسه ، بل كلما كانت مسؤولياته اكبر كان تأثير تصريحاته اكثر ايلاما
اذا كانت سلبية و تمس بمشاعر شعبه . على هذا القائد و اتباعه ان يتفهموا ردود
الافعال و المواقف الناقدة و لا يعتبرونها تمس بالشخص لشخصه و لكنها تمس بموقعه
الذي يتبوؤه و الذي ان تحدث فإنما يتحدث من خلاله ، و الا لما اهتم اليه احد .
و بكل صراحة ووضوح فان ما قاله السيد ابو مازن خلال خطابه في المجلس المركزي
عندما ترحم على المجرم بن غوريون و دعا للاحسان اليه كان جارحا للمشاعر . نحن
نعلم ان الامر و الحساب و الرحمة و الاحسان ليس بيديه بل بيد الله عزوجل لكن
الكلام عندما يأتي من رجل يتزعم شعب يعذب من اللجوء و الاحتلال و لان بن غوريون
و زعماء الحركة الصهيونية سبب في معاناتهم المستمرة ، فإن الكلمات تكون جارحة و مؤلمة .
ان تصريحات كهذه منه و من غيره تأتي لتزيد من الهم على المواطن الفلسطيني ، و في
نفس الوقت تعطي مبررا لاؤلئك المطبعين العرب و الاعلامييين المرتهنين و المرتشين
الذين في غالب الاوقات يكونون صهاينة اكثر من الصهاينة انفسهم ، كما هو حال
الجوقة الاعلامية في مصر و بلاد الحرمين و غيرهم في الدول العربية و الاسلامية .
انا اعلم بان ما اقوله سيستفز الكثيرين من المطبلين و السحيجة و لكن عليهم ان يسمعوه
و من العيب و الجبن ان لا نعلن ما ينغص علينا من اقوال و افعال . ان حرصنا على
وحدتنا و على قادتنا لا يمنعنا ابدا من طرح الاخطاء و ما اكثرها و ما اقل تناولها .
بالمقابل يجب ان لا نغفل عن الاشارة للايجابيات ان وجدت ، ففي الاجتماع الاخير
للمجلس المركزي كثير من الايجابيات في البيان الختامي ، لكن كل هذا مرهون بالتطبيق،
لقد سمعنا و قرأنا الكثير و لا زالت الامور على ما هي عليه و كأن القرارات لم تكن .
نريد ان نرى المواقف مطبقة على الارض و في الاساس منها الطلاق مع الادارة
الامريكيه ووقف التنسيق الامني على الارض و الدخول في مصالحة حقيقية
بلا محاصصة تنظيمية و لا مصالح فئوية ، يكون على رأس مهماتها مقاومة الاحتلال.
ماهر الصديق

