وكالة القدس للأنباء – متابعة
دخل بيت العزاء في برقين بعد استشهاد الفدائي أحمد نصر جرار، فاستقر في مجلسه واحتسى فنجان القهوة المرة كما تقتضي العادات، وما لبث أن أخرج من جيبه مسبحة تميل للحمرة، لون بشرة الشهيد الذي « دوخ « قوات الاحتلال طيلة شهر ونيف. أمسك الدكتور حاتم جرار، أبو رضا ( 70 عاما) مسبحة خشبية نادرة بيده، ودعا عم الشهيد، الصيدلاني أبو خالد وكشف له وعلى مسامع العشرات من رواد بيت العزاء قصة المسبحة التاريخية، التي تصادف هذه الأيام الذكرى السنوية لصنعها.
الدكتور حاتم جرار الذي أنهى دراسته الثانوية في جنين قبل أن ينهي دراسة الطب في جامعة الموصل ويتخصص بجراحة العظام في جامعة القاهرة، روى لـ «القدس العربي» حكاية الهدية – الأمانة المشحونة برسالة رمزية لا تشيخ. ويوضح الدكتور جرار الذي يدير عيادة في بلدته برقين أن المسبحة مكونة من بذور الخوخ وتعود للشيخ المناضل الراحل سعيد محمد محمود جرار حيث كان قد أنتجها خلال اعتقاله في سجني عكا وعتليت في 1938 في عز الثورة الفلسطينية الكبرى( 1936- 1939) ضد الاستعمار البريطاني والصهيونية.
ويقول أبو رضا إن الراحل سعيد جرار، أحد أبناء عمومته، كان كالكثيرين من المناضلين قد اعتقلته سلطات الاستعمار البريطاني بعدما شارك في الثورة ضد مشاريع سرقة وطنه. وبعد فترة من الاعتقال في سجن عتليت جنوب حيفا على ساحل البحر المتوسط، تم نقله لسجن عكا، وهناك استغل وقته الطويل لإنتاج أعمال يدوية منها مسبحة صنعها من بذور فاكهة شجرة خوخ كانت في باحة المعتقل. وتبدو هذه الحبات أنها مرت بعملية تدوير حتى صارت مستديرة وملساء وقد طليت بدهان حافظ بلون خشبها المائل للحمرة. وقد أهداها الأسير سعيد جرار لوالدته الراحلة هند جرار (أم سعيد) في واحدة من زياراتها له، وما لبثت أن منحتها لابنتها نجية محمود جرار( أم وليد) التي تزوج الدكتور حاتم ابنتها.
ويقول الدكتور حاتم إنه سعد بتلقيه المسبحة كهدية ثمينة من حماته أم وليد عام 1975 ومن وقتها وهي بـ « الحفظ والصون» عنده، بل « اعتني بها برموش العين « لأهميتها الرمزية والتاريخية. ويكشف أن جمع المسابح على صنوفها واحدة من أهم هواياته، وأنه يحتفظ بالعشرات منها. ويتابع «تخرج المسبحة معي من البيت فقط في حالات نادرة لأنني مصمم على صيانتها وعدم التفريط بها».
ويشير الى احتفاظه بمسبحة ثمينة أخرى تسلمها في سبعينيات القرن الماضي من أحد المناضلين السجناء المحكومين مدى الحياة تقديرا لقيامه بمعالجة والده. منوها أنه قام قبل سنوات بإهداء مسبحة يدوية الصنع لابن شقيق الأسير المحكوم بالمؤبد بمناسبة حيازته على شهادة طبيب.
ويضيف وهو يشير بالبنان للمسبحة التاريخية من ثلاثينيات القرن الماضي «أملك عشرات المسابح الثمينة، ومنها مسبحة لعمه أبو جرير عمرها 50 عاما، لكن هذه أغلاها على قلبي فهي ليست بالثمانين من عمرها وتكبرني بعقد فقط، بل هي تذكير بمناضل ضحى من أجل حرية وطنه وشعبه ضد العدو الأول، البريطانيين. لقد أعدها بأنامله وهو داخل السجن ولابد أنها كانت عزيزة جدا عليه». ويوضح أنه من شدة حرصه على مسبحة الخوخ عدل عن فكرة راودته بحفر عام إنتاجها لكنه خشي أن يمسها، ويقول إنه يحتفظ بها داخل درج مغلق داخل غرفة نومه.
وردا على سؤال يقول الدكتور حاتم جرار إنه يرفض بيع مسبحته التاريخية، فيلوح بها مؤكدا أنه لن يبيعها ولو عرضوا عليه 100 ألف دولار. متسائلا «كيف أبيع هدية، وهل يعقل أن أعرض ما يرمز لتاريخ عزيز للبيع مقابل فلوس؟». وتابع «مالك المسبحة الأول مناضل أقام قريبا من أحراش يعبد موقع استشهاد المجاهد عز الدين القسام واستقر في الأردن وتوفي في عمان عام 2016 بعدما خدم في الشرطة الأردنية مدة طويلة، ويحزنني أن أحدا لم يوثق مسيرته كالكثيرين ممن بقوا جنودا مجهولين». وردا على سؤال آخر يقول إنه بعد عمر طويل سيمنح المسبحة لابنه فقط بحال وعد وعدا قاطعا بصيانتها وحمايتها.
ويستدل من الحديث مع الطبيب الفلسطيني أنه استل المسبحة من جيبه وعرضها على أقربائه وأبناء شعبه داخل بيت العزاء ليوصل رسالة بواسطتها لهم وللأجيال الصاعدة مفادها أن استشهاد أحمد نصر جرار لم يكن الشهادة الأولى وليست الأخيرة. ويشير إلى أن المسبحة التي تحوي 33 حبة ترمز حباتها المصنوعة من شجر الأرض الفلسطينية لتسلسل مراحل العمر واستمرار مسلسل النضال الوطني حبة حبة ومرحلة بعد مرحلة حتى يعود الحق لأصحابه ويفوز الوطن بكرامته وحريته من جديد.
وكان رفيق الطبيب لبيت العزاء قد عقب على ما سمع بالقول «بالتأكيد سيتم كما تقول المسبحة: «هذا من خلال نضال أبناء البلاد جيلا وراء جيل»، مستذكرا قول الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم « راية جيل يمضي وهو يهز الجيل القادم قاومت فقاوم «. هز الطبيب رأسه في حركة تؤكد تبنيه الكامل لقراءة صديقه لرمزية ما كانت أنامله تداعبها برفق.
المصدر: «القدس العربي»