خاص عيون صيدا – بقلم فاطمة مجذوب
ما بين الماضي والحاضر، هناك أماكن لا تُنسى، أماكن تستحق ان تبقى خالدة في الذاكرة، نسمع عنها من اجدادنا وآبائنا ونتمنّى لو اننا جايلنا عصرهم ورأيناها بأعيننا. هي ايّام تعود الى حقبة الخمسينيّات وربّما قبل ذلك، أيّام محفورة في ذاكرة كل لاجئ هُجر من فلسطين قسرًا الى مخيّمات اللُّجُوء.
منذ ان اُسّست مخيّمات اللُّجوء في لبنان تجد داخل كل مخيّم اماكن وزوايا تميّزها عن غيرها، هي اماكن تذكرك برائحة فلسطين حينما تمرّ بِجانبها، وُجِدت لتبقى وحتى ان دُمرت ورحل اصحابها، لم ترحل من ذاكرة اللاجئين الذين عاصروها ويعتبرونها بِالنسبة ِلهم جزأ لا يتجزء من فلسطين.
في داخل اكبر مخيّمات لبنان من حيث عدد السكان “مخيّم عين الحلوة”، الاف اللاّجئين الذين هُجروا اليه توزعوا ما بين الشارعين الفوقانيّ والتحتانيّ، وللتخفيف عن انفسهم مرارة التهجير والمعاناة كان لا بدّ ان يختاروا مكانًا يجمعهم ويخفف عنهم ، مكان مميز بِالنسبةِ لهم، بداخله يجتمعون يشكون همومهم لِبعضهم البعض، ومن هذه الأماكن المميزة مقهى “ابو دياب” أُولى مقاهي المخيّم، يقع في الشارع الفوقانيّ على مفرق سوق الخضار، هو مقهى السياسة والأدب والفكر الذي جايل النّكبة، وكان ملتقى للثوار والفدائيين.
وللحديث اكثر حول هذا الموضوع علم موقع عيون صيدا ان زوجة العم ابو دياب حضرت من بلاد الاغتراب الى مسقط رأسها مخيم عين الحلوة، توجهنا للقائها، اخبرتنا وفي قلبها مئة غصة، “مقهى زوجي المرحوم ترك بصمة في قلب كل ختيار وفِدائيّ ومُنَاضِل ومفكر ترعرع في المخيّم، فكل من جاء من هؤلاء وزار المخيّم في حقبة الخمسينيّات وصولًا الى الثمانينيّات يعرف تماما عن هذا المقهى، فقد كان ولا يزال عبارة عن تراث خالد في ازقّة المخيّم، فالاحاديث كانت بداخله احاديث مفيدة ولها قيمتها جميعها مرتبطة بِالثّورة والقضيّة الفلسطينيّة”.
وتابعت “كان المقهى مُلتقى لابناء المخيم فقد كانوا يستمعون للأخبار عبر مذياع كبير كان زوجي قد اشتراه من مدينة حيفا قبل النكبة، ومدرسة للاطفال ليتعلموا بداخله كيف اُحتلت فلسطين وكيف هُجر اهلهم قسرًا، كما وخطّطت فيه العديد من العمليّات الفدائيّة حيث كان اللقاء للعديد من العظماء والمفكرين حيث كان معظهم من القوميّين العرب وقلة من القوميّين السوريّين، ومقاتلي العدو الصهويني كـ ناجي العلي، مصطفى سعد، أوّل شهداء المخيّم حسين وحسن ريان، سعيد الصالح ابو صالح، هاشم دياب، محمود الغضبان، طه حمّاد، والذين أُسروا في عمليّة فدائيّة في الجليل عام 1966، وكان من ابرز رواد المقهى صديق زوجي الشهيد القائد جلال كعوش والّذي اُستشهد على يد عناصر من المكتب الثاني اللبناني التابع للمخابرات اللبنانية عام 1966″.
واكملت ام دياب” انّه في تلك الحقبة اعتقل هاشم دياب ورفاقه، انذاك توعّد المحقّق الصهيوني بالقول للشّهيد هاشم نحن نعلم إنّكم تنطلقوا من مقهى صديقك ابو دياب وسيكون حسابه عسيرا، ولكن هاشم كان صلبا جدًا فأجابه بالعاميّة:”اللي بطلع بإيدك اعمله واحنا مش سائلين عليك ولا على كيانك المصطنع”، وفي حقبة الستينيّات زار المقهى غسان كنفاني وتعرف على ناجي العلي واكتشف انه عبقريّ وسيكون له مستقبلا باهرا في النّضال الفلسطينيّ وشجّعه على إرسال رسوماته الى صحيفة المحرّر التي كان غسان يرأس تحريرها قبل المرحوم هشام ابو ظهر، ومن روّاد المقهى أيضًا المناضل ابو صالح الحجيري ومفلح الموعد وصالح العثمان والذين كانوا من أوائل الفدائيّين العرب الفلسطينيّين، بالاضافة الى الكثير غيرهم من التّجار كأبو حسين النجار، والحلاّق أبو احمد خيزران، واساتذة ومدراء مدارس الاونروا”، والكثير غيرهم الذين لم استطيع ذكرهم.
كما واخبرتنا ام دياب ان المقهى كان بمثابة عيادة للحاج أبو حسن المطهر، حيث كانت تقصده عائلات من جنوب لبنان ومخيّماتها من أجل تطهير أطفالهم، كما وكان مركز لِتوزيع المساعدات من قِبل وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين، بالاضافة الى مركز تجمع للشباب لِتسجيل اسمائهم للتطوع في جيش التّحرير الفلسطيني.
لم يبقَ هذا المكان التراثيّ طويلًا، كغيره من الاماكن الثّوريّة، كان هدفًا اساسيًا لدي العدو الصهيونيّ حيث قصفه في اجتياحه عام 1982 على لبنان.
ولد ابو دياب في قرية عرب زبيد شمال شرق مدينة صفد في فلسطين المحتلّة عام 1922، كانت مدرسته الحياة حيث تعلم منها الكثير والكثير من التجارب، عمل في مجال التّجارة في سن الرابعة عشرة، ساهم في تمويل بعض العمليّات الفدائيّة ضدّ الاستعمار البريطاني على فلسطين عام 1948، في تلك الحقبة كان مدركا لمؤآمرات الصهاينة والبريطانيين كغيره من الواعين لطبيعة الاهداف الغربيّة لاحتلال فلسطين، لذلك اسس مقهى ليجمع فيه كل المناضلين والفدائيين للتعلم والتخطيط كيفية مواجهة العدو واسترجاع فلسطين، وخلال هذه المسيره الحافلة تعرض ابو دياب للاضطهاد والسجن وأحيانا لاغلاق المقهى ولكنه كان صلبا لم يتنازل عن مبادئه حتى الرمق الاخير، توفي ابو دياب قي مقهاه عام 1974 نتيجة اطلاق رصاصة من قبل احد ابناء المخيم وشاء القدر ان تدخل جسده وتكون انفاسه الاخيرة في المقهى الذي فنى كل حياته من اجله.
اذًا في حقبة كان فيها النّفس السياسيّ محظور على اللاجئ الفلسطينيّ، كان مقهى
“ابو دياب” هو المنفس الوحيد لهؤلاء، ضحكوا وحزنوا، ولا يزال حتى يومنا هذا المقهى حيّ في ذاكرة الاجداد والآباء وصولًا الى الابناء.
إعلان منتصف المقال