مرّت سنوات عشر على نكبة مخيم نهر البارد، سنوات ليست مدونة في دفاتر أعمارنا، لقد بُعثرت الذكريات، وجرف القدر أحلامنا وبعض طموحاتنا.
لم يكن المخيم مجرد حجارة، وأزقة، وزواريب ضيقة، بلّ كان حضناً دافئاً، تألفت فيه القلوب والأرواح... كان الجار يسكن الوجدان، وكانت العائلة كتلة حنان تجتمع على مائدة وفاء وحب واحدة.
كانت كلمات التخاطب تخرج من ثنايا القلب، فالحزن كما الفرح يشمل الجميع، لا نوافد ولا أبواب مختلفة... كل الأسرار مباحة، وكل العيون مفتوحة على أفق واعد واحد.
المخيم لم يكن يوماً كتلة اسمنت بلا إحساس أو مشاعر، كان ملتقى لأبنائه وكل الجوار.. كان الجميع يحج إليه لما اعتاده فيه من الفة ومحبة وتآخ.
قد تقتلع عاصفة الحرب شجرة، أو تهدم منزلاً، أو تزيل تجمعاً سكنياً، غير أنها عاجزة من أن تقتلع ذاكرة، أو كلمة، أو قصيدة، أو ركناً دافئاً.
غربت شمس مخيم عرفناه، استبدل بأبنية جديدة خالية من نبض مشاعرنا، خالية من ذلك الحنين الذي يساوي كل مدن وبلدان العالم.
غربت مع الشمس تلك العلاقات الإنسانية الجميلة، لم يعدل للصباح نكهة، ولا لفنجان القهوة أو جلسات الشاي معنى، لم يعد الجار كالجار، وحيوية اللقاءات، وحلّت المجاملة والتحية الباردة مكان تلك الروح المرحة المليئة بالحب.
أصبح البارد إسماً على مسمى، كل شيء فيه بارد، كلوح الثلج، أصبحنا غرباء داخل بيوت مغلقة، حتى الشمس لم تعد تلك الشمس التي تلفُنا بحرارة دفئها.. وأختبأ القمر خجلاً خلف السحاب البارد.
أصبحنا غرباء عن ذواتنا، وبتنا مجرد أرقامٍ وأجسامٍ جامدة تتحرك في كل تجاه بحثاً عن رغيف خبزٍ، أو حبة دواءٍ، أو بطاقة تموين.
ما الذي تغيّر، ما الذي تبّدل، حتى تحوّلنا أشباحاً؟!
كيف نستعيد ابتسامتنا لتضئ وجوهنا وأرواحنا؟
بقاء الوضع على حاله يعني الموت.. يعني الغياب عن الحياة.. يعني الاستقالة من أحلامنا..
لا بد أن نفعل شيئاً.. أجل لا بد من قول شيئاً.. لأن الغربة في وضعنا نحن الغرباء ضياع حتى النخاع!!
تعالوا نسقى بذار جذورنا بماء الروح من جديد.. علّها تنمو، تورق، تزهر، وبذلك تستقيم الحياة.
مخيم نهر البارد في عمر دماره العاشر.. حكاية تستحق القراءة والتأمل.. فالوردة تشق طريقها نحو النور أحياناً من قلب صخرة!!