وكالة القدس للأنباء - خاص
لم يكن يتوقع لغربته أن تطول، والعاصفة التي هبَت على أرضه من شأنها أن تحدث له كل المآسي والشروخ التي تعرض لها وشعبه، كان يظن أن الرحلة قصيرة ومجرد أيام معدودة، ومع ذلك حرص أن يجمع بصندوق حديدي صغير، ما يذكره بوطنه، فوضع فيه حفنات من التراب، وهي الأغلى إلى قلبه، لأن العشق الذي نما بينه وبينها عميق ومتجذر.
كما حرص على أن يحتفظ ببعض مقتنيات منزله العزيزة عليه، مثل مكواة ثياب وقنينة ماء الزهر وسواها، ولم ينس أن أن يحمل مفتاح داره بيده ويرحل.
يجلس الحاج عبد الله الصالحاني ابو احمد (90 عاماً) ، على عتبة منزله في مخيم شاتيلا في بيروت، متكئاً على عكاز خشبية ويده ترتجف، وملامح الحزن تغطي تجاعيد وجهه، يتحسر على الأيام الجميلة التي أمضاها في قريته الصغيرة البصة التي أبعد عنها قسراً إلى الأراضي اللبنانية، نتيجة إرهاب العصابات الصهيونية التي قصفت البلدة بمساعدة الجيش البريطاني.
لم يكن الصالحاني يتوقع يوماً بأنه سيحرم من مراسم خطوبته واستعداده للزواج في قريته البصة، بسبب اغتصاب أرضه وحرمانه من جني حصاد ما زرعته يداه، ليتزوج بعد ذلك في الغربة ويعيش معظم سنين حياته لاجئاً.
يتذكر أبو عبد الله وهو يتحدث لـ"وكالة القدس للأنباء"، أيام الخير، وكروم التين والزيتون وبساتين الليمون، يتنهد وكأنه يتنفث غبار 69 عاماً من الحرمان.
ما فيه شيء أغلى من الوطن
يجد الحاج الصالحاني صعوبة في العيش خارج وطنه فلسطين، يقول ذلك والدمعة تترقرق في عينيه:" ما في إشي بيغني عن بلدي، ومهما غلوت الأوطان بتبقى بلد الواحد عزيزة عليه.. وأنا ما بدي أبقى لاجئ".
يصمت قليلاً ويدخلني إلى منزله ليريني رزمة من المفاتيح الذي جمعها لسبب واحد، ترك فيه حسرة في قلبه، وهو أنه قد أضاع مفتاح منزله في فلسطين، وكأن المفتاح رفض أن يغادر، ومنذ ذلك الوقت وهو يجمع المفاتيح ، كما أنه يلوم العرب لتفريطهم بفلسطين.
مرت الأعوام بطيئة في حياته، لكن حلم العودة بقي يعشعش في ذاكرته، فحنينه وشوقه إلى أرضه، إلى البيادر ومعصرة الزيتون، والساقية لا يفارقه أبداً.
يضيف:"الأرض هي العرض، الأرض أغلى من الولد ... تغيرت النفوس، الناس ببلدنا كانوا يشاركون بعضهم البعض بالأفراح والأحزان، وما كان الواحد يعوز شي"، يشير إلى الصندوق الذي أمامه ويقول:" هذا الصندوق هو اللي بقي ذكرى من فلسطين، كله ضاع، ومفتاح البيت بفلسطين ضاع، وكومة المفاتيح ما بعوضوني عن مفتاح البيت، مفتاح العودة إلى فلسطين".
الصندوق من ريحة فلسطين
وعبر الصالحاني عن محبته لفلسطين "الخسارة كبيرة وما في شي بعوضني عن هوا وتراب بلادي، هذا الصندوق أمانة من ريحة فلسطين، صرلي حامله 69سنة، وبطلب من أولادي أن يحتفظوا فيه ويوخذوه معهم إلى فلسطين إن شاء الله".
وختم:"أنا عشت بفلسطين وتنشقت هواها، وبتمنى أولادي يشوفوها ويعيشوا فيها، وهذا الشيء ما بيتحقق إلا بالوحدة، وحمل السلاح بوجه العدو، بهالطريقة منقدر نخرجه من بلادنا، وغير هيك رح نبقى لاجئين."
لم تنس السنين التسعين الحاج أبو احمد أرضه وذكرياته، بل كانت أيام اللجوء تزيده حرقة وشوقاً إليها، وقد دفعه هذا الشعور إلى تحميل أولاده وأحفاده حب ذلك التراب والعمل لاسترجاعه والعودة إليه مهما طال الزمان، ومهما كانت الصعاب والتضحيات ، هذه الوصية تسقط كل الوهم الصهيوني بأن أجيال فلسطين المقبلة لن تعرف الطريق إلى وطنها.
12:24 - 24 أيار, 2017
