عندما فتحت سلوى الباب ، كادت تشهق لهول المفاجأه .
لم تكن تتوقع أن يأت شخص كهذا لزيارتهم .
هو ليس من ثوبنا ، و لا نحن من ثوبه ! غواره... -
قالت في نفسها بعد أن تسمرت عيناها بهذا الزائر الليلي المريب .
بقيت صامتة لبرهة ، تضاربت الكلمات ، و غربت البسمات عن الشفاه .
لم يعد للياقة مكان في حضرة الزائر الاستثنائي . فكرت بإغلاق الباب ،
لكنه كان يتكئ بيده اليمنى على الباب ووضع اليسرى على الحائط ،
و قد ادخل رأسه كمن يبحث عن شئ !
سألت بعد أن استعادت رباطة جأشها ، و احكمت السيطرة على خيالها :
ماذا تريد ؟ -
مساء الخير -
ماذا تريد ؟ سألت سلوى من جديد . دون ان ترد التحية . -
الوالد موجود .. اريده بأمر خاص ؟ -
أخذ يجول بنظره هنا و هناك ، و يحدق بالفتاة بشكل
يعيبه هذا المجتمع الفلسطيني المحافظ ، و هو يبتسم إبتسامة ماكره .
لم تعتد سلوى على استقبال الضيوف بهذه الطريقة ،
سيما و انها ترعرعت في بيت مضياف !
والدها رجل يقدره الناس ، وجيه من الوجهاء ، له مكانتة الاجتماعيه .
بيته لا يخلو من الزوار و المحبين و اصحاب الحاجات .
- أمر خاص ! قالت بسرها ، ربما يريد أن يُلحق ابي بأخي سامر في المعتقل .
الكل يقول أنه كان وراء الوشاية به ،خصوصا بعد مشادة
جرت بينهما امام مرأى من الجميع . يومها قال له :
- ستندم يا سامر ، و ستدفع الثمن !
انتبهت بانها اطالت الوقوف امام الباب ، و كان الزائر
لا يزال يمعن في نظراته الغريبة ، قالت :
انتظر . صفقت الباب بشدة في وجهه ، و ذهبت مسرعه . -
- ما الامر ياسلوى؟ سأل والدها وقد لمح على وجهها الذهول .
- إنه .. إنه سميح يا ابي ، نعم سميح، ماذا افعل؟
كان الارتباك قد سيطر كليا على الصبيه التي لم تتجاوز الرابعه و العشرون ربيعا .
فتاة عُرفت بالاتزان و الالتزام و الذكاء . تقف حائره لا تدري كيف تتصرف .
هل كان يجب عليها ان تعنف الزائر ؟ تقول له إذهب بعيدا لا تدنس بيتنا الوطني الطاهر .
مثلك لا مكان له في منزلنا ... ضيوفنا رجال محترمون ،
يخافون الله .. يحبون أوطانهم .
تشرف هذا البيت باستقبال الشهيد عماد و الشهيد كامل و الاسير
بلال ، و آخرين من الابطال الشجعان ، و لن يتلوث برخيص مثلك .
كل معارفنا من طينتنا الفلسطينيه الشريفه و الاصيلة .
قطع استرسالها كلمات ابيها الذي لاذ بالصمت لبرهة و هو يفكر بالقادم غير المرحب به.
إذهبي أنت يا ابنتي ، لا أدري ماذا يريد منا هذا البغيض ، أنا أتدبر الامر . -
كان سميح قد اقترب حتى التصق بالباب ، كأنه يسترق
السمع لأي حديث يساعده على ابتزاز هذه العائلة المناضلة .
كاد أن يقع إلى الداخل عندما فتح ابي سامر الباب لولا أن لقيه بيده !
- مهلا .. مهلا ، كل شئ على ما يرام ؟! سأل صاحب البيت و قد بدت الدهشة عليه .
- لا شئ .. لا شئ ، لعلي لم أكن متهئ لفتح الباب ، هذا كل شئ .
رد سميح و بدا وجهه ممتقع و جسده يترنح كالثمل ، ثم استدرك :
- مساء الخير يا عم ، هل تسمح لي بالدخول ، اريدك بأمر مهم .
بدت عليه نظرات خائنه من تحت نظارتيه السوداوتين التي يخفي خلفهما مكره .
- تفضل ،الحقيقة انا لا استقبل احدا في مثل
هذا الوقت ، إنه وقت نومي .
أراد أن يُفهمه أنه غير سعيد باستضافته .
بيد أن الرجل الذي اعتاد على كراهية الناس و اشمئزازهم لم يأبه بالكلام ،
بل انزلق إلى الداخل ، كما لو كان صديق للعائله ، أو احد أفرادها.
- اشتقت لك ، كنت أراك دائم الزياره لمنزل عمي ابو خالد ،
لم أرك منذ فتره ، قلت آتي لاطمئن عنك ! كيفك انت ، طمئني عن صحتك ..
ما أخبار سامر ، هل تذهبون لزيارته في المعتقل ؟
أخذ يسأل دونما انتظار للجواب ، تكلم بإعجاب عن المقاومين ، ترحم على الشهداء .
اظهر تضامنا مع الأسرى ! كان يتكلم كأنه واحد من قادة المنظمات الوطنيه ،
و أن الاخبار تأتيه أولا بأول ! قال أن بعض الأسرى بعثوا له برسالة
سريه طالبوه بضرورة الاستمرار بالمقاومه ! توسع بسرد قصص كاذبة
لا اصل لها عن بطولاته و اعماله الكبيرة التي لا يحب التحدث عنها .
إعلان منتصف المقال
قال: ان الناس تظن بي على غير حقيقتي ، لاني لا ارغب بالحديث
عن افعالي و نضالي و دفاعي عن شعبي !
كانت سلوى جالسه في الغرفه المحاذيه تستمع لاكاذيبه،
تتبرم و تزداد حنقا و بغضا له . قررت أن لا تقدم له شيئا من واجبات الضيافة .
قالت : يجب أن يعرف أنه غير مرحب به في دارنا .
تابع في سرد قصص و حكايات بطوليه قام بها ... لكنه توقف عندما
سمع شخير ابو سامر الذي تظاهر بالنوم ، لعل الزائر الغليظ
يغادر بأقصى سرعه .
- هل نمت يا عم ، يظهر أنك متعب ؟
- قال بصوت عال ، و هو يربت عل كتف صاحب البيت .
تصنع ابو سامر أنه قام من كبوته ، أخذ يفرك بعينيه .
- لا ادري ما أن تُصادف الثامنه حتى أشعر بالنعاس ، تخور قواي
و لا اتمكن من فتح عيناي من التعب .
المعذرة ، ما سبب الزياره لم اسمع من شدة نعاسي ؟ -
آتيك بوقت آخر ، عقب سميح ! -
. لا.. لا ، قل ما تريد ، أنا مريض لا اتمكن من مقابلة الناس في هذه الايام -
أراد ابو سامر أن ينهي الامر حالا ، و أن لا يدعه يأتي مرة اخرى .
. - كنت .. كنت اريد أن أتشرف بطلب يد ابنتك ، أنا متأكد بأنك لا ترفض لي طلب
كان يتلعثم بكلماته ، و بدت عليه الخيبه ، فقد كان متأكد من الإجابة.
حاول أن يخفي انفعاله بإبتسامة صفراء ، تلفت يمينا و شمالا ، كأنه يبحث عن شئ ما.
كان يتحرك بشكل ملفت ، ليس من عادة الضيف أن يمارسها .
انتظًر برهة ، و لما لم يسمع جوابا ، التفت فجأة نحو الرجل الكبير ،
و قد جحظت عيناه ، و احمرت وجنتاه ، و تبدلت لهجته :
- ماذا قلت ؟ سأل بنبرة عاليه كما لو كان يريد إجابة سريعة موافقه مؤكدة!
- البنت منذ استشهاد خطيبها كامل عزفت عن الزواج ،
لا تريد أن تتزوج في الوقت الراهن .
. لا تستعجل بالإجابه ، إسألها ربما تغير رأيها ، سأعود في الغد لأخذ الجواب -
عاجَله ابو سامر بعد ان انتصب واقفا .
. أقول لك من الآن ، ليس لك نصيب عندنا -
كلكم .. كلكم تكرهونني ! - لما .. لماذا تكرهوني ،
ماذا فعلت لكم ، الكل يتهمني ، لم يعد لي صديق ، لا يكلمني أحد،
عندما القي السلام لا يرد على تحيتي احد من الناس ،
ماذا افعل حتى اثبت لك عن حبي للوطن مثلك بل و اكثر منك ؟
كان يتحدث بصوت عال كالذي فقد توازنه . لم يحترم وضعه كضيف
و في حضرة رجل كبير ، و ان الموقف يستدع قدر اكبر من اللياقة و الهدوء .
- نحن لا نعرفك حتى نحبك او نكرهك .
أنا أعرف والدك ، كان رجل شهم جرئ محبوب من الناس .
و كان وطني مخلص ، و أعمامك رجال محترمون ، هذا كل ما أعرفه عنكم .
- أبي وطني مخلص ، أما أنا فلست وطني ، انا جاسوس ، أليس كذلك ؟
خرج مسرعا دون أن ينبس ببنت شفه، دفع الباب بقوة
و هو خارج مما خلف صوتا كبيرا قطع سكون الليل .
سمعه الجيران يسب بأقذع الالفاظ و بصوت عال .
لم يكن أحد يعرف ما الامر. لكن كل من رآه
كان يعرف أنه شخص منبوذ ، لا يحبه أحد .
تقدم لخطبة عشرات الفتيات ، لم تقبله واحدة منهن .
حتى من فاتهن سن الزواج لم يقبلنه . قريباته من بنات أعمامه و أخواله رفضنه .
كان ينتقم من العائلة التي ترفضه ، فيقوم بالوشاية على الشباب ،
او يتعمد استفزازهم في الشوارع بقصد استدراجهم للعراك حتى
يتمكن من اخذ مبرر للوشاية ، و تعريضهم للاعتقال و الاذى .
لقد صعقت سلوى عندما اخبرها ابيها برغبة سميح ! قالت:
- لو لم يبق رجال في هذا العالم الا هذا الساقط لما تزوجت منه !
بعد أشهر قليلة من هذه الزياره انتشر خبر مقتله في حقل قريب من القريه .
تضاربت الانباء حول السبب ، قيل أنه انتحر بإطلاق النار على رأسه .
و قيل أن بعض المقاومين استدرجوه إلى مكان منعزل و أعدموه .
و قيل أن العدو قام بقتله بعد أن استنفذ كل ما عنده و لم يعد قادرا
على تقديم المزيد و انكشف امره للناس .
بقي سبب قتله مجهولا إلى الآن ، الا ان موته لم يأسف له حتى اقرب المقربين .
فيما بقيت القرية عصية على العملاء، و بقي جهاز الاستخبارات كالخفاش،
لا يدر شيئا عن المقاومين الملثمين الذين يخرجون من القرية
في اعمالهم العسكرية و مواجهاتم مع جنود الاحتلال .