ليس من السهل الكتابة عن هذه الشخصية الوطنية المميزة .
فهو مواكب لمرحلة طويلة بحجم سنين عمري او اكبر قليلا .
عايشها بآلامها و آمالها و عايشناها بجوارحنا و عواطفنا . كان
قائدا و قدوة ، و كنا متابعين له نتعلم معنى النضال و حب الوطن .
ابو رياض حديث الناس بالتضحية من اجل القضية ، فهو لم يخسر
وظيفته في وكالة الاونروا فحسب ، بل خسر معها حريته الشخصية
لانه اصبح هدفا لرجال التحري و الدرك ، و صار معروفا للشعبة
الثانية و اجهزة الاستخبارات . هكذا كنا نرى به قدوة نضاليه
و مثالا للصمود و التحدي و عنيدا ضد الظلم و القهر السلطوي.
ابو رياض محمود بركة عايش مرحلة عصيبة مليئة بالآلام .
اوضاع انسانية صعبة ، منازل من التنك و الخيم ، انعدام
للخدمات . تكاثرت الممنوعات حتى اصبح اللاجئ يعد المسموحات
على اصابعه ! لم تكن المسموحات الا جرعات من القهر و الظلم
و الموت و المرض . ممنوع عليه التجمع و التظاهر .. التحدث
بالسياسة .. السهر بعد مغيب الشمس .. اجتياز مناطق معينة
الا بتصاريح من ثكنة الجيش ، هذه الاخيرة بحد ذاتها كانت
مصيدة من المصائد لتشغيل اللاجئين ببعضهم و تجنيدهم كعملاء .
ممنوع رمي ماء الغسيل و جلي الاواني ، و ممنوع عمارة مرحاض.
ممنوع البناء من الحجر. بالاضافة للممنوعات الاقتصادية التي لا حصر
لها ! كل شئ يحتاج لتصريح ما عدا الموت ....لانه ليس بايديهم !
هكذا كانت الامور و بهذه الاوضاع القسرية اللانسانية ، كان
يجب ان تولد فكرة الانطلاق من اجل التحرير . كان لا بد من الالتحاق
بركب الثورة ، ثورة هنا ضد ادارة شمعون يقوم بها المواطن اللبناني
المحروم ، و ثورة هناك في عقول الثوريين من اصحاب الافكار القومية
التي كانت تدعو لوحدة العرب من جديد باعتبارها امة واحدة ، تاريخها
واحد و مصيرها واحد و عدوها واحد . افكار عصية على التطبيق في تلك
المرحلة لاسباب متعددة في مقدمها فقدان العوامل الذاتيه ، و الثقافة
القوميه في المجتمعات العربية ، و طغيان الثقافة العشائريه و القطرية .
ذهب بعض ابناء ذاك الجيل الى ابعد من ذلك حينما تخطوا كل الحواجز
الوطنية و الاقليميه و الدينيه و تبنوا افكارا اممية غريبة على عقائد
الناس بل غريبة على ابناء الدول الصناعية نفسها آنذاك ، و ليس
على الدول المتخلفة او ما تعارف على تسميتها بالنامية !
كان على اللاجئ الفلسطيني ان يتخطى
كافة العوائق ، لانه بطبيعته يرفض فكرة الانطواء و القبول بالامر الواقع .
لهذا كان قد وجد ضالته في تلك المكونات الفكريه الوطنيه و القوميه
و الامميه لان بنيانه النفسي يقوم على التمرد ضد الظلم و القهر
و التدجين. كان قد تعلم من درس اللجوء بان من احتل ارضه لن
يخرج منها الا بقوة السلاح ، و ان الانظمة القائمة ما هي الا صنيعة
من صنائع القوى الدولية التي اوجدت الاحتلال ، و هي ليست
بأكثر من درع واق للكيان الصهيوني و مصيرها مرتبط بهذا الكيان، فإذا
زال الاحتلال سقطت هذه الانظمة ، و اذا سقطت الانظمة اقتربت نهاية
الاحتلال ، علاقة جدلية لا تنفصم ! انضوى اللاجئ ذي الاوضاع
إعلان منتصف المقال
المزرية القاسية بكل المكونات الفكرية و التنظيميه الناطقة باللغة
العربية و بغيرها ، عله يجد ضالته و يخطو الى الامام نحو العودة .
حلم العودة لا يفارقه ، و بوصلته واضحة ، و نهاية الاحتلال هدفه ،
و الاسلوب لتحقيق النصر واحد ليس له بديل ، عرفه اللاجئ
جيدا و بدأ يبحث عنه بكل الوسائل ... انه السلاح ، لا شيئ غيره .
كانت مرحلة عصيبة من القهر و الحرمان ، كنا نرى على وجوه
الكبار علامات الغضب ، لا يعبرون عنها لكن بامكاننا قراءتها بوضوح .
بالرغم من الصغر لم يغب عني طوال حياتي ذلك المشهد ، عندما
انتشرت قوات الدرك و اعتقلت كل الشباب من اعمار الخامسة عشرة
فما فوق . بدعوى مهاجمتهم لسيارة نقل تابعة لشركة كندا دراي التي
يعود ملكيتها لليهود . اختبأت يومها في منزل جدتي . لم اكن اعلم
ما اذا كان عمري على قائمة الاعمار المطلوبة ، لكني علمت يقينا
بان المؤامرة علينا ليست من الغرب فقط بل هي اعظم
و اكثر ايلاما لانها ايضا من اناس يشبهوننا
و يتكلمون لغتنا و يحملون اسماء كأسمائنا . كان التحري " جورج"
القصير القامة ، المتكرش يستفزني في كل شئ ، يثير حفيظتي . كلما
رأيته اشعر باني امام واحد من الغيلان التي كانت تعشعش في عقولنا
من وراء قصص الجدات ، كنت اتمنى زوال صورته باي شكل .
في هذه الاجواء الكئيبة كان ابو رياض يعيش تلك المرحلة بكل دقائقها .
كان على دراية بان اللاجئ لا بد له من النهوض لمواجهة الظلم
مهما كانت النتيجة ، و ان عليه ان ينطلق في مقاومة يجب ان تجتاز
حقولا من الالغام حتى تصل لغايتها في مواجهة الاحتلال ، عليها ان تترقب
اي فعل من الرجال الذين يرتدون البدلات الكاكية و يصولون و يجولون
بين الازقه الفقيرة و يتنصتون من خلف الابواب المتهالكة .
و كان على المارد الراقد في قمقمه ان يواجه كل استخبارات العالم
حينما يريد ان يعبر الحلقة الضيقة الفاصلة بين السكوت و الصراخ .
في كل خطوة من تلك الخطوات كان محمود بركة يخطط و يجتمع
و يفكر مع غيره من اصحاب الارادة الحرة ، و كانت المخيمات على
موعد مع المواجهة التي لا بد منها ، مواجهة بين الصدور العارية
و بين الاسلحة الخفيفة و الثقيلة و المجنزرات المستعدة للفعل .
كان ابو رياض في مقدمة الصفوف ينبري خطيبا و يحث الناس
على المطالبة بحقوقهم و بالاخص حقهم الثابت بالعودة الى وطنهم .
و كان يتصدر في كل المواقف مما عرضه للكثير من المضايقات .
ها نحن و بعد هذا العمر لا زلنا نتعلم من تلك القامة الشامخة
معاني الثبات و التمسك بالمبادئ و عدم التفريط بالثوابت .
ابو رياض حالة فلسطينيه معتبرة . كان و لا زال مثالا
للعطاء و محبة الوطن و الذود عن الحق و الوقوف بوجه
الظلم . تعلمنا منه الكثير و ما زلنا بامس الحاجة لتوجيهاته ،
فتجربته الطويلة في العمل الشعبي و السياسي غنية ، اكسبته
خبرات كبيرة . له منا كل التقدير و المحبة و الاحترام .
ماهر الصديق