"حاولت مرات عديدة أن أتحدث مع والدي، وأدخل عليه الغرفة من أجل موضوع يؤرقني، إلا أنه كان ينهرني ويطالبني بالخروج لأنه مشغول جداً. وأعود ثانية وثالثة ورابعة والدموع في عينيّ إلى الغرفة أطلب الكلام معه، ولكنه كان يشير لي قائلاً: أخرج أنا مشغول على النت".
ويضيف: "إن والديَ يتسابقان في الجلوس على جهاز الكمبيوتر الذي لا يوجد غيره في المنزل، ما جعلني أكره هذا الجهاز اللعين، وأيضاً التليفزيون الذي أخذ مني أختي، وأصبحت وحيداً ليس لي سوى زملاء في المدرسة ومعظمهم يدخن السجائر، وأحياناً يتعاطوا المخدرات، وفي بعض الأحيان يذهبون إلى أماكن مشبوهة ويطلبون مني أن أذهب معهم"
قصة هذا الطالب ، الذي رفض ذكر اسمه، قد لا يحدث نظيرها كثيراً في مجتمعنا الفلسطيني، ولكن فإن "مخاطر التكنولوجيا" قد تُحدث المزيد مستقبلاً في حال لم ندرك طبيعة المخاطر التي تسببها هذه التقنية على تفاصيل ومسارات حياتنا ومشاعرنا، وعواطفنا وكل ما يتصل بنا من ود وحب وتعاون وإخلاص.
الهوس التقني!!
ومثلما لكل صناعة أو ابتكار محاسن ومثالب، فإن الأمر يندرج كثيراً على وسائط الإعلام الجديد، لا سيما الفيس بوك التي غدت "هوساً" لأكثر من مليار شخص حول العالم. هذه التقنيات الحديثة يتوجب التعامل معها والاستفادة منها، ولكن بصورةٍ موضوعية، وتنموية، لا بشكلٍ ادماني وعبثي. وعلى هذا النحو، فإنه في حال تم توظيف هذه الوسيلة الاتصالية والتواصلية بصورة سلبية، فإن مخاطرها ستصيب الجميع، ابتداءً من البيت، وصولاً للمجتمع وتماسكه.
وقد لا يختلف اثنان على الأهمية الكبرى التي أحدثتها التكنولوجيا في عالم الإنسان وتطور الحياة. ولكن في المقابل يمكن القول أن هذه التقنية أخذت من البشر أكثر مما أعطتهم، فإن كانت سهلّت التواصل فإنها ألغت الحميمية، وإن أعطت الحياة طابعها السريع فإنها قادت الإنسان إلى دوامة من العزلة والمرض النفسي. وهكذا أصبحت المعاناة مرادفاً لكل تقدم خاصة في عالمنا القانع بالاستيراد: استيراد التقدم والشقاء.
تناول هذه القضية والتركيز عليها يحتم علينا طرح جملة من التساؤلات التي في حال الإجابة عليها ستتضح الصورة لهذه المسألة بشكلٍ أعمق وأفضل. ومن أهم هذه الأسئلة: هل تبدلت تفاصيل حياتنا، وأصبح كل همنا التواصل مع الآلة ورفض الغير؟ هل الثورة التكنولوجية جلبت لنا السعادة أم الشقاء؟ وهل طغت التكنولوجيا على الوالدين وجعلتهما لا يلتقيان مع الأولاد لسماعهم ووضع حلول لمشكلاتهم؟. وأيضاً ما هي الآثار السلبية لمثل هذا السلوك على حياة الأفراد والمجتمعات؟ وأخيراً هل من حلول لذلك؟.
وبين من يعتقد أن الأمان مفقود إلا مع " الكمبيوتر" وبين الذين يرون أن التكنولوجيا هي "كلمة السر" في تعاسة الكثيرين فإن تقريرنا هذا سيركز على مدى تأثير التكنولوجيا على العلاقات الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني.
توظيف وقوننة
يقول د. زهير الصباغ أستاذ علم الاجتماع بجامعة بيرزيت:" إننا نعيش ثورة التكنولوجيا وهي مفروضة علينا ولا بد لنا من التعاطي معها شريطة تقنينها وتوظيفها بما يتواءم وتقاليدنا وأخلاقياتنا، موضحاً في الإطار ذاته أن هذه التقنية غيرت الحياة الاجتماعية بين جميع الطبقات، وأصبح الإنسان في عمله اليومي لا يستطيع أن يجد لديه فراغ بسببها، وغدت العلاقات الاجتماعية بين الناس مختلفة تماماً عما عاش عليه أجدادنا، فتدهورت هذه العلاقات نحو الأسوأ".
ويؤكد د. الصباغ على أن الوسائل التكنولوجيا، لا سيما الانترنت والهاتف المحمول يلعبان دوراً هاماً جداً في حياة الناس على الرغم من وجود أبعاد وآثار سلبية لهما، خصوصاً فيما يتعلق بالجانب القيمي والأخلاقي، منوها إلى أن التقنية الحديثة ساهمت في تخفيف حميمية العلاقات والتعاون بين أفراد المجتمعات، ومطالباً في الوقت ذاته بضرورة إعادة الأهمية للتواصل المباشر لما يمثله من تفاهم أكثر وتعاون أفضل.
ويضيف" رغم الحديث عن أن التطور التكنولوجي الهائل لم ولن يعرف المستحيل إلا أن ذلك سبب سلوكيات قد يعتبرها البعض "بالكارثية" على البشرية ومسار العلاقة بين أفرادها؛ تلك العلاقة الواجب قيامها على الترابط المباشر والتواصل الحي، والتعاون المفتوح. ويوضح" هذا الأمر المفقود بنظرهم سيؤدي في حال استفحاله وانتشاره في وسط المجتمعات إلى انهيار كثير من القيم والأخلاقيات".
من جانبه يقول الباحث في علم اجتماع المعرفة د. بسام عورتاني: :إن الإعلام الجديد ومواقع التواصل فضحت الثقافة العربية وعرت فسادها وهشاشتها، حيث أن هذه الثقافة، أساساً، فيها الكثير من العناصر الفاسدة والسلوكيات المنحرفة، وبالتالي فإنها عاجزة عن مواكبة التطورات التكنولوجية لفسادها وضعفها.
ويضيف" وعلى هذا الأساس، فإنه يمكن تفسير أي سلوك له علاقه بسوء استخدام التكنولوجيا في المجتمع العربي وفق هذه الثقافة التي تركز على السطحي دون إدراك حقيقة ووظيفة ما هو مفيد وناجع.
قريب جغرافياً وبعيد نفسياً!
من جانبها تقول سندس راضي أن مثل هذا الاتصال البيتي ليس مناسباً ولا مجدياً لأن له أضرار وأبعاد سيئة، إذ أن العائلة بسبب ذلك تصبح قريبة جغرافياً، ولكنها بعيدة انسانياً ووجدانياً واجتماعياً، وهذا ما له في النتيجة العامة مخاطر شتى على مدى روابط العائلة وتعاونها وتماسكها.
وتوضح أن هذه القضية ظاهرة منتشرة في أوساط العائلات الفلسطينية، وتتزايد بفعل ما يرونه الأبناء من اهتمام الآباء بمثل هذا التواصل البيتي، إلى جانب انتشار الاجهزة وتركيب معظم البيوت لخدمة النت.
ومن المؤشرات على إمكانية تفشي مثل هذه المخاطر ما يذكره المربي عبد الله سعيد من انتهاج بعض الأزواج (علاقة الرسائل القصيرة) بينهم في داخل المنزل(خاصة إذا كان واسعاً) وذلك للإيقاظ أو لطلب أمرٍ ما وسوى ذلك.. هذا السلوك ـ بلا شك ـ له آثار سلبية جداً على تلك العلاقة الزوجية والعائلة عموماً..
تجفيف للعلاقة!!
وعندما نتحدث عن التكنولوجيا لا بد لنا من التطرق إلى الجانب المالي لذلك. فالمواطن حسني خليل يذكر أنه كان في السابق يدفع ما بين (400 ـ 500) شيقل بدل مكالمات مع أقربائه وأصدقائه سواء في داخل الوطن وخارجه، أما عندما أصبح هنالك بريد الكتروني وفيسبوك فإنه يقوم بإرسال الكثير من الرسائل لجميع هؤلاء الأحباب دون أن يدفع سوى قسطاً يسيراً جداً مما كان يدفعه سابقاً نظير مكالمات هاتفية.
فهذه الطريقة التقنية من شأنها كما يبين شادي قاسم المتخصص في علم الحاسوب اختصار الوقت وبالتالي استثماره ففي خلال ثانية واحدة يستطيع الفرد أن يرسل آلاف الرسائل الالكترونية إلى الآلاف من الأفراد والمؤسسات، منوهاً إلى أن الجانب المالي لا سيما إكثار البعض في الحديث عبر الهاتف جعل كثير من الناس يستخدمون الوسائل التقنية للتعبير عن مواقفهم والاطمئنان على غيرهم وتقديم التهاني أو التعازي لهم. ورغم أن قاسم يعترف بتراجع القيمة الانتمائية وروح الصداقة والترابط نتيجة هذه التقنية إلا أنه يؤكد بأن ذلك أصبح أمراً واقعاً ومن المستحيل الاستغناء عنه.
لعنة التكنولوجيا!!
وفي السياق ذاته يقول محمد أبو عمر :" أن التكنولوجيا أصابت الجميع باللعنة بعد أن تحكمت وباعدت بين الأهل والأصدقاء وفرضت على كل شخص مكاناً يشبه الشرنقة ونسي كثير من الناس المناسبات الدينية التي تحثنا على التواصل خاصة في الأعياد واكتفينا بعمل رسالة قصيرة عبر المحمول أو مادة نصية قصيرة جداً من خلال البريد الالكتروني أو الفيسبوك ودويتر ولم يعد أحد يفكر في إيجاد وسيلة لعودة العلاقات الطيبة على الأقل بين أفراد الأسرة " .
وفي السياق ذاته ترى الطالبة سماهر عبد المنعم أنه لا أحد ينكر دور التقدم التكنولوجي في حياتنا وعلينا أن نتعامل معها معاملة ذكية تخدم حياتنا بايجابية لتكون دعامة أساسية لتطور الأشخاص، لكن ما يحدث خلاف ذلك تماماً وتحول الموضوع إلى تسلية وضياع للوقت والجهد، ما يؤثر في بنية المجتمع وتماسك أواصره. وأضافت: " ساهمت التكنولوجيا في التفكك الأسري والتباعد وأصبحنا نكتف بكتابة “مسج” للأم أو الأب والأحباب في المناسبات وتحولت التكنولوجيا إلى رافد من روافد عدم الأمان حتى داخل الأسرة خاصة من جانب الأولاد، بعد أن تحكمت فينا هذه التقنية وحولت البشر إلى آلة" .
مطالب وتحذير!
المطلوب هو التمسك بقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا عند التعامل مع التكنولوجيا من دون أن نتأثر بسلبياتها وأن نسخرها لخدمتنا من دون أن تحولنا إلى عبيد لها.ولا ضير بأن نوظف هذه الأداة المتميزة في التواصل وتقديم التهاني والتعازي لكن دون أن ننسى التواصل المباشر لما فيه من فضائل تعميق المحبة والمودة وتنمية المشاعر والحميمية الصادقة.
دنيا الوطن ...

