لكأنَّه لا يكفي ابن المخيم ما هو فيه من غم و همٍّ وظلمٍ من عدوِّه البعيد وابن العشيرة القريب.
أقولها والغصة في حلقي و الحسرة في قلبي. لقد فقدنا نحن أبناء المخيمات آخر نعمة كانت تخفف من ألـمِنا ومعاناتنا أعني بها تلك الحميمية الاجتماعية التي كانت تسود في مجتمعنا رغم اللجوء وتداعياته المأساوية.
تلك العلاقات النبيلة الصادرة عن موروثنا الديني وتقاليدنا التي تنضح بالشهامة والنبل والقيم بدءًا من احترام الكبير وتوقيره وانتهاءًا بعادة الكرم المتمثل بتلك الاطباق من الطعام التي كانت لازمةً أخلاقية يجود بها الجار على جاره بغض النظر أكان فقيرًا أم غنيًّا.
سقى الله تلك الأيام في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
كان الشاب يغار على ابنة الجيران كغيرته على اخته، و إذا نهرها تسمع وتُطيع؛ كان الرجل الكبير مسموعَ الكلمة محتَرم الرأي يفضُّ النزاعات والمشاجرات بكلمةٍ منه و تلويحةٍ بعكازه يخضع له المتعاركون المراهقون قائلين :"بأمرك عمو على راسي".
كان المريض إذا مرض لا يعبأ بتداعيات مرضه النفسية من وحدةٍ و وحشةٍ و كلفة العلاج المادية
فمعظم اهل المخيم يزورونه حاملين أكياس الكعك وما يفيض عن حاجاتهم من ليرات:"سلامتك يا أبا حسن ما عليك شر شد حيلك".
كان إذا هاج البحر و انقضّ الموج على البيوت القريبة من الشاطئ في ليالي كانون حيث بحر الرشيدية طالما كان ينفلت من عقاله كالمجنون يقتحم البيوت فيغرقها ويشرد أهلها كنت ترى أهل المخيم كبارًا و صغارًا يهبون للنجدة غير عابئين بالبرد والعواصف.
يحزُّ في نفسي و أنا ابن المخيم أن أرى هذا الانقلاب المشؤوم في أخلاقنا وعاداتنا وقيمنا.
حينما أتذكر الماضي و أحدّق في واقعنا المُعاش أشعر بالمرارة والأسى والإحباط.
كم يحزُّ في نفسي أن تجمعَ الطريق بيني وبين جاري ولا ألقي عليه التحية ليس بخلاً مني بل حفاظًا على ما تبقى من ماء وجهي بعدما بادرته أكثر من مرة بالسلام انطلاقًا من أخلاقي الإسلامية فيصدني بلؤم .
كم أتألم حينما أرى شجارًا بين عائلتين تنزف فيه الدماء وتُكشَفُ فيه العورات والناس يتفرجون بل ويصورون وهم يتضاحكون. وأعود بالذاكرة إلى نفس الحدث حيث كان الأجاويد يتدخلون مصلحين وكأنَّ شيئا لم يكن .
الأمثلة كثيرة والهُوّة سحيقة بين مخيم الماضي ومخيم الحاضر ولعلّ سائلًا يسأل ما السبب في كل هذا؟؟
أهي العولمة التي أطاحت بالمنظومة الأخلاقية للبشر فأصبح الانسان في ظلها مجرد رقم بعدما كان قيمة وأخلاقًا ومشاعر فأصابنا هنا في مخيماتنا ما أصاب الناس، أم تلك التنظيمات والجماعات والأحزاب التي بصنميَّتِها ونرجسيتها وخطابها المأزوم أحدثت هذا التداعي والتمزق والانقسام في نسيج المجتمع حتى في العائلة الواحدة أم كلاهما معا الله أعلم‼️‼️
.
