تسارعت الاحداث في مناطق السلطة الفلسطينية كأنها في سباق مع الزمن .
التقينا مجموعة اصدقاء نراقب الاوضاع و نحللها من بعيد .
كانت المناطق الواقعة تحت السيطرة المباشرة للسلطة
او ما جرى على تسميته مناطق "أ" قد استبيحت .
اما نحن فكنا مختلفين على تقسيم افتراضي للمجتمع الصهيوني بكل مقوماته.
هم متفقون على دمنا و نحن مختلفون على وصفهم!
بعضنا يتصور ان ذلك الكيان الهلامي الغريب ينقسم الى حمائم و صقور !
و انه في طريقه للصراع التناحري الطبقي. دون الاخذ بالاعتبار الظروف
غير الطبيعية لنشأة كيان الاحتلال ، و المكونات الاجتماعية غير المتجانسة
التي تجمعها خرافات و اساطير توراتية و تلمودية.
كان الرأي لدى الكثيرين و انا منهم انه مجتمع متطرف من مصاصي الدماء.
الفرق بينهم بالاسلوب و ليس بالمبدأ. الدم الفلسطيني لا حرمة له عندهم.
الفلسطيني بمعاييرهم عدو دائم منذ ان جاء اجدادهم من مصر
يقصدون فلسطين المسكونة بأهلها العرب الكنعانيين و اليبوسيين .
الفلسطيني بنظرهم لا يمثل اكثر من " ارهابي". كل فلسطيني
عندهم مشروع تفجيري ، يتقنص الفرص لزعزعة امن " الدوله"
ها هي فرصتهم لتحقيق بعض رغباتهم الجامحه في اهراق اكبر كمية
ممكنه من دماء الشعب الفلسطيني. و ها هو واحد من اكثر الزعماء
الفلسطينيين راديكالية ، قريب من مخالبهم . فهو اعزل و معتقل ،
بلا قوة سوى قوة العزيمة و الاراده. فرصة تاريخية تهيأت للقاده الصهاينه
لاشباع نهمهم و تفريغ حقدهم الدفين. من اين ستأتيهم هذه الفرصة مرة اخرى ؟
انه احمد سعدات زعيم الجبهة الشعبيه الشجاع العنيد.
جلسنا امام التلفاز نرتشف القهوة و نتابع الاخبار اولا باول .
نقلب من محطة الى اخرى و من قناة الى قناة . مضت 12 ساعة
على حصار المقر في مدينة اريحا ، حيث كان سعدات محتجز،
و ليس في الآفاق مشاريع حلول . من المؤكد ان العراب المتخصص
بالصفقات المثيرة للجدل محمد رشيد " خالد سلام " قد اخفى نفسه
في مكان ما ! هو من كان وراء صفقة اعتقال سعدات و رفاقه
بحراسة امريكية بريطانية مشتركة في معتقل تابع للسلطة
باريحا ، و كان وراء صفقة الشباب المتحصنين في كنيسة المهد .
كان الجدل مع البعض حول السؤال الذي لا يحتاج لاجابه :
هل تغامر القياده العسكريه الصهيونيه بسمعة كيانها و تقتحم المعتقل ، باعتباره
مقر رسمي للسلطه ، خصوصا ان هناك حراس بريطانيون و امريكان ؟
السؤال بحد ذاته كان يستفزني أشد الاستفزاز ، فمن يردع هذا الكيان
عن القيام باي حماقه ، و منذ متى كانوا يحسبون حسابا لاحد ؟
ثم من يحمي كيان الاحتلال و يزوده بوسائل القتل ، من يغطي
على جرائمه ، من يستخدم الفيتو في مجلس الامن لمنع ادانته ؟
ان في المعتقل سعدات و رفاقه ، لن يتركوهم ابدا ، فهو تحت قبضتهم من جديد.
نعم لقد اعتقل الرجل مرات عديده قبل اليوم ، لكنه الآن هو الرجل
الاول في جبهته. و هو رجل صلب و عنيد ، لا يختلف عن سلفه الشهيد
ابو علي كثيرا. و هو فوق كل هذا المسؤول الاول عن عملية مقتل زئيفي
التي جاءت انتقاما لاغتيال الامين العام ابو علي مصطفى.
القياده العسكريه و السياسيه و الدينيه الصهيونيه لن تحقق رغباتها الاجراميه
من خلال اعتقال السلطه لاحمد سعدات بحراسة غربيه .
لقد اعتقلته السلطه قبل هذا الوقت اكثر من مره و لم تؤثر على مواقفه
و لم تنل من عزيمته. هؤلاء هم الصهاينه و هذه مواقفهم.
لن توقفهم المواقف المستنكره ، و سيغادر الحراس الغربيين باشارة واحده
من الضباط الصهاينه. اختلفت في الموقف مع احد الاصدقاء الذي ينتمي
لتنظيم يساري ، فهو من تنظيم يراهن على التناقضات في المجتمع الصهيوني.
و ان تلك التناقضات ستؤدي يوما الى تفكك الدوله او سيطرة اليسار " الاسرائيلي "
و سينتج عن ذلك استعادة الحقوق الفلسطينيه في الاراضي المحتله عام 1967!
و يعتقد صديقي ان قوى " السلام" و الديمقراطيه هناك في حال نمو
دائم ، و دورهم يتعاظم على كافة المستويات. كان هذا الوهم يثيرني
و تلك السطحيه تزعجني لكن لا طائل من النقاش مع اؤلئك " الرفاق"
الذين لا يغيرون من مواقفهم خصوصا اذا جاءتهم من قياداتهم المركزيه!
الاهم بالنسبة لي هو كيف سيكون موقف الضباط الفلسطينيين الذين
يعتقلون سعدات في مركز رسمي للسلطه ؟ هنا كان السؤال الكبير!
هل سيطلقون سراح الرجل الذي كان بحمايتهم و جاء الى معتقلهم باتفاق ؟
هل يتركونه يواجه الامر وحده و يتعرض للاعتقال او يتم اغتياله في الحال ؟
لم يتاخر الرد طويلا فلقد ظهرت صور اقتحام الآليات الصهيونيه على شاشات التلفاز ،
و رغم الدخان الكثيف و الغبار و ظلمة الليل الا اننا تمكنا من مشاهدة واقع مؤلم و مهين.
حدث مخجل بكل المعاني . انسحب الاوروبيون و الامريكيون قبل دقائق قليله ،
و تم اقتحام المبنى ، حيث ظهرت صورة سعدات و رفاقه محاطون بالجنود
الصهاينه المدججين بالاسلحه ، فيما كان الحراس الفلسطينيون يسيرون
بملابسهم الداخليه ، في مشهد مخز لا يُنسى .
اذن ، الرجال " الاشاوس "الذين كانوا يعتقلون سعدات اصبحوا معتقلين ،
سلموا اسلحتهم و خلعوا ملابسهم و رفعوا اياديهم للأعلى .
فلا هم اعطوا سعدات و رفاقه سلاحا ليدافعوا عن انفسهم و لا هم تركوهم يخرجون
من اي جهة ممكنه و لا هم دافعوا عنهم، بل و لا هم استسلموا استسلام المقاتلين الشجعان ،
استسلام من استنفذ كل الممكن ! كان عليهم ان يعرفوا ان الرادع
الوحيد في مثل هذه المواقف لا يكون الا القوة و الصمود ،
لا شئ غير هذا. للاسف ان البعض لم يتعلم من الماضي الغني بالتجارب.
اين هؤلاء السجانين من ابطال مخيم جنين الذين لقنوا العدو درسا لن ينساه ابدا؟
اين هم من رجال المقاومه الذين واجهوا الدبابات بعزيمة و عنفوان في الضفة
و غزه و قبل هذا في مخيمات لبنان ، و قبل ذلك في معركة الكرامة ؟!
وقف سعدات ببسالة و رجوله امام المحاكم الصهيونيه العنصريه ،
اكد امامهم انه من حق شعبنا ان يناضل بكل اشكال النضال
و ان يدافع عن نفسه بكافة الوسائل . ظهر كعادتة مرفوع الهامة
برباطة جأش و قوة و اصرار. تماما كما كان حال" امير الظل" عبدالله البرغوثي
الذي اعتقل في 5 نيسان 2003 و يقضي حكماً من أعظم الأحكام
في التاريخ بالسجن المؤبد 67 مرة، إضافة إلى خمسة آلاف ومائتي 5200 عام .
حين سئل هذا البطل الفلسطيني خلال محاكمته اذا كان سيعود للقتال
لو افرج عنه قال : مادام المحتل في ارضي سوف اقاتل و اقاتل و اقاتل .
و هو ايضا لسان حال مروان البرغوثي الذي اعتقل في 15.4.2002.
خلال انتفاضة الاقصى و المحكوم بالمؤبد 5 مرات حيث وجه النداء
من داخل المحكمة لاستمرار المقاومه ضد الاحتلال .
تحية لهؤلاء الرجال الكبار. تحية لاحمد سعدات و لكل اسير في زنازين
الاحتلال و لكل معتقل في زنازين الانظمة العربيه.
النصر آت ، انه اقرب من رمية حجر .
ماهر الصديق

