التداعيات الاقتصادية والكلفة المالية
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
انتفاضة القدس أو الانتفاضة الفلسطينية بصورةٍ عامة، كانت بالنسبة للإسرائيليين وربما لغيرهم أيضاً في الداخل والإقليم والجوار، هاجساً يقلقهم، وكابوساً يلاحقهم، وقد كانوا يسابقون الزمن، ويتحايلون على الأحداث لئلا تقع أو تنفجر، لأنهم كانوا يعلمون تداعياتها، ويعرفون نتائجها، وانعكاساتها على استقرار كيانهم وأمنهم وعلاقاتهم الخارجية، وصورتهم الإعلامية، وترابطهم الداخلي، وأنشطتهم البينية التي يلزمها الأمن والهدوء والاستقرار وطمأنينة النفس وراحة البال، ولكنهم رغم خوفهم وتحسبهم، ما كانوا يحاولون تجنبها عملياً، ولا الابتعاد عن أسبابها والقضاء على عواملها جدياً، بل كانوا بممارساتهم العدوانية القاسية المتعمدة سبباً في تفجيرها في وقتها أو تبكيرها عن أوانها.
انتفاضة القدس التي انفجرت داميةً، واتخذت السكين وسيلةً وسلاحاً وأداةً، بما فيها من رعبٍ وخوفٍ سيطر على المستوطنين والجنود معاً، وطافت وانتقلت إلى كل أرجاء فلسطين، قد ألقت بظلالها القاسية والمباشرة على الحياة الاقتصادية الإسرائيلية، وأثرت بشكلٍ أو بآخر على مختلف المرافق الخاصة والعامة، وكان لها آثارها السلبية الملموسة والمعدودة والمحسوبة، التي انعكست بصورة مباشرة على المؤسسات والمرافق والخدمات، وعلى المدخولات والنفقات، وقد أصابت بعض المرافق بالشلل الكلي، وأخرى تعطلت جزئياً، وكلاهما مع توالي الأيام يغرق وتتعمق مأساته أكثر، الأمر الذي سيجعل معافاة الاقتصاد الإسرائيلي صعبة أو متأخرة.
فقد ذكرت الصحف الإسرائيلية أن الأيام العشرة الأولى من الانتفاضة قد تسببت في صدمة الأسواق المالية الإسرائيلية، وتركتها في حالة ذهول وتخبطٍ، وأدت إلى انهيار ملحوظ في أسهم الشركات الكبرى، وقد تستمر هذه التداعيات وتتفاقم في حال استمرار الأحداث، مما سيضر الحكومة ووزارة المالية الإسرائيلية إلى تخصيص ميزانياتٍ إضافية إلى جهاز الشرطة العام، وإلى قيادة الأركان ووزارة الدفاع، التي ستكون مضطرة لاستدعاء الاحتياط، بالإضافة إلى وزارة الداخلية والأمن الداخلي، وحالة الاستنفار القصوى التي تعيشها الأجهزة الأمنية، الأمر الذي سيرهق ميزانية الدولة، وسيرفع من حالة مديونتها الداخلية والخارجية، وحاجتها إلى المساعدات الدولية، لحقن ميزانيتها، وستكون هذه الميزانيات الإضافية على حساب فعالية وحيوية المرافق الاقتصادية الأخرى، حيث يتوقع أن يتراجع مستوى الإنتاج المحلي، بالإضافة إلى تراجع دخل الحكومة، وفي حال حصولها على مساعداتٍ أو قروض، فإنها ستكون مضطرة لتحويلها إلى جهاز الشرطة والجيش، ليتمكنا من مواجهة الأحداث المتصاعدة.
ونقلت الإذاعة العبرية عن مسؤول كبير في وزارة المالية الإسرائيلية قوله إن "الانتفاضة أدت إلى زيادة تكلفة المصاريف الأمنية والعسكرية بشكلٍ كبيرٍ، سيما في ظل استدعاء الآلاف من الجنود للخدمة في القدس وأرجاء الضفة الغربية، إلى جانب الحاجة إلى شراء الكثير من العتاد والتجهيزات العسكرية والأمنية اللازمة للعمل العسكري والأمني والاستخباري".
وقد سجلت دوائر الرصد الإسرائيلية انخفاضاً ملحوظاً في القطاع السياحي، حيث ألغيت مئات الرحلات، وألغيت آلاف الغرف الفندقية، خاصة تلك التي كانت مرتبطة بمدينة القدس وأماكنها الدينية، حيث لوحظ حالات إلغاء جماعية لرحلاتٍ وبرامج كانت معدة ومخطط لها قبل أشهر، ما أدى إلى إغلاق العديد من المكاتب السياحية وتعطيل الموظفين، وإلغاء التعاقدات الفنية والرياضية والثقافية، فضلاً عن توقف الخدمات المرافقة كالمطاعم والأماكن السياحية وشركات تأجير السيارات وغيرها.
يستطيع أي مراقبٍ أو متابع أن يلاحظ أن الحركة في الشوارع الإسرائيلية قد خفت كثيراً، وأن العديد من المحلات التجارية قد أغلقت أبوابها، وتراجع الإقبال على الأسواق العامة، وقل رواد المقاهي ومرتادو دور السينما والمسرح وأماكن الترفيه الأخرى، وأن الحافلات الإسرائيلية العامة قد باتت خالية من الركاب إلا قليلاً، خاصةً بعد عملية حرق عشرات الحافلات العامة وهي متوقفة في مرائبها، وهي إشاراتٌ واضحة على حالة الركود والانكماش التي يعيشها الاقتصاد الإسرائيلي.
لا تتوقف التداعيات السلبية لانتفاضة القدس على المرافق الاقتصادية المباشرة، بل امتدت آثارها لتطال قطاع التعليم، وخاصة التعليم الديني في مدينة القدس، حيث أغلقت عشرات المدارس، وغاب تلاميذها وطلابها عن مقاعد الدراسة، وبدأت بعض البلدات الإسرائيلية في تحديد ساعات الدراسة، ومتابعة حافلات نقل التلاميذ، في الوقت الذي اتخذت العائلات الإسرائيلية احتياطاتها الخاصة ومنعت أولادها من الذهاب إلى المدارس، خاصة تلك التي تتقاطع طرق الوصول إليها مع قرى وبلداتٍ فلسطينية.
وتري الخبيرة الاقتصادية الإسرائيلية إيليت نير أن الضرر الذي لحق بالأسواق الإسرائيلية نتيجة الانتفاضة، أكثر بكثير من تلك التي أصابها جراء الحرب الأخيرة على قطاع غزة، ففي الحرب على غزة كان المواطن الإسرائيلي يثق في الجيش لحمايته وصد الاعتداء عنه، ومهاجمة المقاومين في أماكنهم، أما عمليات الطعن العامة، والدهس والصدم في الشوارع والطرقات، فهي تتصف بالفردية والفجائية، وليس فيها تنظيمٌ ولا إعداد مسبقٌ، ومنفذها كل فلسطيني يرغب ويقرر، ولا يوجد ضدها ضربة أمنية حاسمة ومميتة، الأمر الذي من شأنه أن يجعل من كل مواطنٍ إسرائيلي هدفاً متوقعاً وضحية ممكنة، ويبدو في وجهة نظرها أن بقعة الزيت آخذةٌ في الاتساع والتمدد.
لا أحد ينكر أن الاقتصاد الإسرائيلي مزدهر بالمقارنة مع دول المنطقة، ودول المركز الرأسمالي المتقدمة، وأنها تحقق نمواً اقتصادياً يصل إلى 5% سنوياً، ولكن الاقتصاد الإسرائيلي اقتصادٌ يوميٌ آنيٌ، يتأثر باللحظة، ويستجيب إلى المؤثرات والمعطيات الزمانية والمكانية، ولهذا فهو على الرغم من درجة النمو العالية نسبياً، فإنها قد تؤول فجأةٍ بطريقة الانكسار الحاد غير التدريجي إلى درجاتٍ دنيا، في حال استمرار الانتفاضة، وانعكاسها النفسي والمادي على المواطن الإسرائيلي.
لا ينبغي أن نقلل من حجم وأثر الانعكاسات السلبية على بنية الاقتصاد الإسرائيلي نتيجة الانتفاضة المباركة، فأثرها يتجاوز الأرقام والإحصائيات، ومستوى النمو ودرجة الركود، إلى انعدام الثقة في الكيان ومستقبله، والإحساس فيه بالغربة والخوف، وفقدان الثقة في جيشه ومؤسساته الأمنية، وفرار المستثمر الأجنبي، وهروب رأس المال المحلي، ونزوع المواطنين إلى السكينة والهدوء، والكف عن البيع والشراء، والامتناع عن دفع الضرائب وأداء المستحقات، وغير ذلك مما تنتجه النفس المحطمة، والروح اليائسة، والأفق المسدود.
بيروت في 22/10/2015
==========================================
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (13)
بان كي مون ينصح وإسرائيل تأمل
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بعد مضي قرابة شهر على اندلاع انتفاضة القدس الثانية، واتساع نطاقها، واشتداد أوارها، وتعدد وتنوع عملياتها، وتنافس شبانها وشاباتها، مخطئٌ من يظن أن الأوضاع في فلسطين المحتلة من الممكن أن تعود إلى ما كانت عليه قبل الانتفاضة، وإن كان هذا هو حلم حكومة الاحتلال، التي باتت تعض أصابعها ندماً، وتتمنى أن ما كان ما صار، وتتحسر على أوضاعٍ كانت تسيطر عليها، وظروفٍ كانت تصنعها وتهيمن عليها، ولكنها تفاجأت أن سحرها قد انقلب عليها، وأن خيوط اللعبة قد أفلتت من بين يديها، وأن كرة اللهب تكبر يوماً بعد آخر، وأن إمكانية السيطرة عليها أصبحت صعبة، فضلاً عن العجز التام عن إطفائها وإنهاء فعالياتها، وقد بدأت أصواتٌ إسرائيلية عديدة تعلو وترتفع، وتنتقد وتعترض، وتحمل الحكومة ورئيسها كامل المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في البلاد.
وعليه فقد بدأت الدبلوماسية الإسرائيلية تنشط في السر والعلن، مع الحلفاء والأصدقاء ودول الجوار ومع السلطة الفلسطينية، في الوقت الذي تحاول فيه مخاطبة عواصم القرار الدولية الكبرى، وتطلب منهم التدخل السريع والفاعل، ليساعدوها في الخروج من هذا المأزق، وإقناع الفلسطينيين بضرورة التراجع عن انتفاضتهم، والكف عن فعالياتهم، حفظاً لحقوقهم، وحقناً لدمائهم، وصيانة لمنجزاتهم، في الوقت الذي يهددون فيه السلطة الفلسطينية ورئيسها بضرورة استنكار الانتفاضة وإعلان عدم تأييدهم لها، وضرورة التنديد بعمليات الدهس والطعن ووصفها بأنها عمليات إرهابية.
تشعر الدول الكبرى الراعية للكيان الصهيوني والحريصة عليه، أن نتنياهو وحكومته قد أضروا بمصالح شعبهم، وأنهم أساؤوا استخدام سلطاتهم، وارتكبوا في القدس حماقاتٍ كبيرة، وتصرفوا في السياسة بخفةٍ وسذاجةٍ وسخفٍ، دون تقديرٍ حكيمٍ للظرف والمخاطر المحتملة، وأدخلوا المنطقة في دوامةِ عنفٍ جديدة كان من الممكن تجنبها، فكانوا بقراراتهم سبباً في انفجار الأوضاع وتصاعد عمليات القتل المتبادل بين الطرفين.
وترى الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية أن هذه الحكومة بسياستها قد أحرجتهم، ووضعتهم في مواقف محرجة ومآزق صعبة، ولهذا بادرت عواصمها إلى إرسال وزراء خارجيتها إلى المنطقة، للاجتماع بمسؤولي الطرفين معاً، والتوسط بينهما لإيجاد حلولٍ مشتركة من شأنها أن تضع حداً للأحداث، وأن تنقذ المنطقة من انهياراتٍ أكبر، وأن تعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل انفجارها، وهو ما يأمله الكيان الصهيوني ويتمناه، ويدعو أن تكلل جهود الوسطاء بالنجاح، وأن يتمكنوا من إخماد ألسنة النيران التي تتصاعد، والتي يبدو أمامها عاجزاً وغير قادرٍ على تطويقها أو الإحاطة بها.
كان بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة من أوائل المسؤولين الكبار الذين أطلقوا صيحة الخوف والقلق على الكيان الصهيوني ومستقبله، وإن بدا أنه حريصٌ على الفلسطينيين أيضاً وقلقٌ على مصالحهم، ومنزعجٌ من حوادث القتل التي يتعرضون لها يومياً، ، وخائفٌ على مستقبل المفاوضات والحوارات بينهما، إلا أن زيارته كانت في حقيقتها استجابة للنداءات الإسرائيلية الخفية، التي صدرت عنهم بصوتٍ خافتٍ، لكنه وغيره من المسؤولين الكبار يستطيعون سماعها، ويدركون جديتها، ويؤمنون بضرورة الإصغاء لها، فهب على عجلٍ لزيارة المنطقة، واجتمع مع المسؤولين من الجانبين، ودعاهما إلى التهدئة وضبط النفس.
عودة الحياة في المنطقة إلى طبيعتها، وإلى ما كانت عليه قبل اندلاع الانتفاضة، حلمٌ إسرائيلي حقيقي، فهم يريدون الخروج من هذا المأزق، وضبط الأوضاع كما كانت، والعودة إلى سياسة الخطوات التدريجية المتدحرجة، التي يستطيعون من خلالها تنفيذ ما يريدون بصمتٍ وهدوء، دون صخب الزوار وجلبة المستوطنين، وتطرف المتدينين وعنصرية وعنف طلاب المدارس الدينية.
كلف الإسرائيليون بان كي مون أو هو أدرك هذه المصلحة بنفسه وتطوع لها من تلقاء ذاته، وأراد أن ينقلها إلى المنطقة بلسانه، وكأنه حريصٌ حكيمٌ، ومسؤولٌ أمين، فإنها في النهاية مصلحة إسرائيلية ومنفعة يهودية أو صهيونية لا فرق، فما كان قبل الانتفاضة بالنسبة لهم مكسبٌ ومنفعة، والعودة إليه حكمة بالغة، وإلا فإن المضي والاستمرار، والتعنت والتصلب، سيؤدي بهم إلى خسارة ما بين أيديهم وما كان قبل الانتفاضة لهم، وعلى هذا يجد بان كي مون ويسعى.
إنها نصيحة شعبيةٌ فلسطينيةٌ صادقةٌ خالصةٌ، نقدمها إلى بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة، بأن يكف عن دعوته الفلسطينيين والإسرائيليين إلى وقف الاعتداءات المتبادلة، والقتل المشترك، والعودة إلى طاولة المفاوضات، فهو بدعوته هذه يظلم الشعب الفلسطيني، ويساوي بين المقاومة الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي، ويصف عمليات الطرفين بأنها عمليات عنفية، في محاولةٍ منه لاسترضاء الإسرائيليين ومنع غضبهم، في حين أنه يعلم ويرى أن الإسرائيليين جميعاً، جنوداً ومستوطنين وعامةً، يقتلون الفلسطينيين في الشوارع، ويدعون أنهم يدافعون عن أنفسهم، ويصدون الخطر عن مواطنيهم.
وعليه أن يعلم أن الفلسطينيين ليسوا يائسين ولا محبطين، وأنهم لجأوا إلى خيار القهوة تعبيراً عن يأسهم من مسار التسوية، بل إنهم لا يريدون العودة إلى طاولة المفاوضات، ولا إلى الحوار مع العدو الصهيوني، وأنهم قد ثاروا على خيار التسوية، ورفضوا التنسيق الأمني، وطالبوا السلطة الفلسطينية بالامتناع عن لقاء الإسرائيليين والتفاوض السياسي معهم، ودعوها إلى وقف كل عمليات التنسيق الأمني معه، ويخطئ أكثر عندما يحذر الشعب الفلسطيني من مغبة الاستمرار في الانتفاضة "العمليات العنفية"، التي يرى أنها تضر بمصالح الفلسطينيين وتقوض مساعيهم للوصول إلى دولة مستقلة.
وندعوه إلى أن يكون عادلاً ومنصفاً، وأميناً وصادقاً، فهو في موقعٍ يوجب عليه أن يكون نزيهاً وجريئاً، فلا يخاف ولا يجبن، ولا يداهن الإسرائيليين ولا يتملقهم، فهو يعلم أن الشعب الفلسطيني مظلومٌ ومضطهدٌ، وأنه يعاني ويقاسي من الاحتلال الجاثم على صدره، ويعلم أن العدو الإسرائيلي ظالمٌ وباغي، وقاتلٌ ومعتدي، فلا ينبغي أن يكون بوقاً له، ولا أداةً في يده، ولا لساناً يعبر من خلاله، وملا مسؤولاً أممياً يشرع لهم جرائمه، ويسكت عن انتهاكاتهم وتجاوزاتهم.
بيروت في 23/10/2015
==========================================
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (14)
عقم مسار التسوية وعزة خيار المقاومة
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
كانت فلسطين كلها على موعدٍ دائماً مع الانتفاضة الشعبية الثالثة، وكان الشعب ينتظرها بفارغ الصبر، وكانت كل الإشارات تدل على أنها قادمةٌ لا محالة، وأنها ستكون الرد الفلسطيني الحاسم على كل الإجراءات والاعتداءات الإسرائيلية، فالفلسطينيون في الوطن وفي الشتات يشعرون بعقم المفاوضات مع العدو الصهيوني، وأنها لن تفضي إلى شئ، وأن الوعود الإسرائيلية والضمانات الأمريكية والدولية لن تمنح الفلسطينيين شيئاً، ولن تحقق لهم دولة، ولن تعيد لهم وطناً، ولن تسمح للاجئين بالعودة إلى بلداتهم وقراهم في فلسطين المحتلة، ولن تحقق لهم شيئاً من الوعود التي قطعتها، ولن تلتزم بالضمانات التي أعلنتها.
منت الولايات المتحدة الأمريكية طويلاً، ومعها دولٌ أوروبية كثيرة، السلطة الفلسطينية بعسل السلام، وبرفاهية الحياة ورغد العيش، وبالمن والسلوى الذي ينتظرها في نهاية الطريق، شرط أن تتحلى بالصبر وسعة الصدر، وأن تتحمل بعض الأذى والقليل من الحرمان والمعاناة، وأن تتعاون مع الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية، وأن تحسن تفسير تصرفاتها، وألا تشك في سياساتها، وألا تؤلب المجتمع الدولي ضدها، وألا تحرض الشارع الفلسطيني وتؤجج مشاعره، وألا تستعجل الخطى معها، ولا تفرض عليها شروطاً مسبقة، ولا أخرى مزعجة، بل عليها أن تتفهم وجود الأحزاب الدينية اليهودية المتشددة، وشروط المستوطنين القاسية، ومواقف اليمين المتطرف، وغيرهم من أعضاء الائتلاف الحكومي الذي يحترمه نتنياهو ويلتزم بالسياسة معهم.
كذب الفلسطينيون الوعود الأمريكية، وفضحوا تعهداتها وضماناتها، ويأسوا من مشاريع التسوية، ومن خطط السلام، ومن المبادرات الدولية وشعاراتها الزائفة، وملوا زيارات وزراء الخارجية المكوكية السياحية، وشعروا بأن ما يطرحونه عليهم من مشاريع وأفكار، ورؤى ومواعيد وتواريخ نهائية، إنما هي كذبٌ وسراب، وهي لتضييع الوقت وذر الرماد في العيون، وتمكين العدو على الأرض أكثر، ليتمكن من تنفيذ المزيد من مخططاته، مستغلاً تبني السلطة الفلسطينية لخيار التسوية حلاً وحيداً للقضية الفلسطينية، ورفضها ورئيسها لكل مشاريع المقاومة، بل ومقاومته ومحاربته لها، وتحديه لكل القوى والفصائل التي تتبناها، واعتقاله للقائمين عليها، رغم علمه بعقم هذا الخيار، وأنه لن يحقق أياً من الأهداف الوطنية الفلسطينية.
ظن العدو الإسرائيلي في ظل انشغال الدول العربية وحكوماتها بمشاكلها الداخلية، أن الفلسطينيين سيقبلون بهذا الواقع، وسيستسلمون لهذه الخطوات، وسيعترفون أنهم وحدهم ضعفاء، وأن أحداً لن يلتفت إليهم أو يهب لمساعدهم، فكثفت حكومة نتنياهو من إجراءاتها التهويدية للمسجد الأقصى، فسمحت للمستوطنين والمتدينين اليهود بالدخول إلى الحرم، والصلاة في باحاته، كما أذنت لعددٍ من النواب والوزراء بدخوله في مواكب استفزازية، واستعراضاتٍ عدائية، بصحبة المئات من رجال الشرطة، الذين كانوا يقومون بحمايتهم أثناء الاقتحام.
كما سمحت الشرطة الإسرائيلية لطلاب المدارس الدينية في الشطر الشرقي من مدينة القدس، وفي محيط المسجد الأقصى، باستفزاز الفلسطينيين والسخرية منهم والتهكم عليهم، والاعتداء عليهم بالضرب والإساءة، وشتموا الرسول الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم، وحاولوا إخراج المرابطين والمرابطات من الحرم بالقوة، وخلال ذلك أصابوا بعضهم بجراح، واعتقلوا آخرين، ومنع كل من هو دون الأربعين من الصلاة في المسجد، في محاولةٍ منهم لتخفيف الأزمة والسيطرة عليها، ومعتقدين أن الفلسطينيين عاجزين وخائفين، وأنهم يشعرون باليأس والإحباط، وأنهم سيقبلون بالواقع عجزاً، ولن يثوروا عليه رفضاً.
لكن الشباب الفلسطيني من الجنسين، من سكان مدينة القدس والضفة الغربية، لم يعجبهم الحال، ولم يرضوا عن هذا الواقع، فهبوا للدفاع عن القدس والمسجد الأقصى، بما لديهم من إمكانياتٍ بسيطة، فاستخدموا السكاكين في الرد على الإسرائيليين، وعمت ظاهرة السكاكين مناطق مختلفة من مدن الضفة الغربية، وشعر الإسرائيليون بخطورتها، وأنها ككرة الثلج تكبر يوماً بعد آخر، وأنها تلحق الضرر بهم، فهي توقع بينهم ضحايا، كما أنها تسبب لهم الرعب والهلع.
جاء رد الفعل الإسرائيلي قاسياً وموجعاً، واتخذت الحكومة سلسلة من الإجراءات والقرارات الرادعة التي ظن رئيسها أنها حاسمة، وأنها ستقضي على الأحداث، وستخنق الانتفاضة في مهدها، وستعيد الفلسطينيين مرةً أخرى إلى مربع اليأس القاتم، ودوائر العجز الذليل، وستجبرهم على القبول بما يطرحه، والموافقة على ما يعطيه، دونٍ مقاومةٍ واعتراض، أو ثورةٍ ورفض، إذ سمح بقتل الفلسطيني في الشارع، وإعدامه بدمٍ بارد، بشبهةٍ أو بغيرها، وبسببٍ أو بدونه، وأذن للمستوطنين بالقتل، وسمح لهم بقوة قانون الاحتلال بمزيدٍ من البغي والفساد، دون أي مساءلة أو عقاب، ولا اتهام لهم بالجريمة ولا وصف لعملياتهم بأنها إرهاب.
رغم كل هذه الإجراءات، فإن جيلاً فلسطينياً صاعداً، قوياً مؤمناً، شجاعاً لا يتردد، صلباً لا ينكسر، وعنيداً لا يلين، ذكياً لا يخدع، وواعياً لا يغرر به، ويقظاً لا يستغفل، قرر أن يمضي في خيارته، وأن يصل إلى غاياته، أياً كانت التضحيات والتحديات، ومهما بلغ حجم الدم المهراق، وعمق الجرح المكلوم، رافضاً خيارات التسوية المذلة، ومفاوضات السلام المهينة، ووعود الغرب الكاذبة، وضمانات العدو الزائفة، معتقداً بيقين أن هذه مسيرة شعب، وانتفاضة جيلٍ، وحركة أمة، تتطلع إلى الحرية والتحرير، فلا يهمها ما تلاقي، ولا يعنيها شدة ما تواجه.
إنها الانتفاضةُ، خيارُ ذات الشوكة، فيها معاناةٌ وألمٌ ، وحزنٌ ووجعٌ، وفقدٌ وخسارةٌ، وتضحيةٌ وعطاء، وفيها محنةٌ وفتنةٌ، ولكن خاتمتها دوماً خيرٌ، ومآلها فوزٌ، ونتيجتها نجاحٌ، ونهاية الشوط فيها سلامةٌ وأمان، والدم المهراق فيها يعبد الطريق، ويسوي المسار، ويصحح المسيرة، ويبقي على جذوة المقاومة متقدة، ونارها مشتعلة، والشهداء فيها مناراتٌ يضيئون الطريق، وينيرون الدرب، ونجومٌ في السماء يهدون السبيل، ويأخذون بالنواصي والأقدام إلى جادة الحق والصراط المستقيم، وأعلامٌ على الأرض وبين الناس، يذكرونهم ولا ينسونهم، ويحفظون فضلهم ولا يجحدون تضحياتهم، ولا ينكرون عطاءاتهم، إنها درب العظماء، وسبيل الكبار، قد سبق إليها الرسل والأنبياء، وسار على نهجهم المخلصون والشهداء.
بيروت في 24/10/2015

