لم تفارقه صورة الجندي و هو يهوي بكعب بندقيته على رأس
خالته سلوى عندما كان في السادسه من عمره .
بقي المشهد حيا في مخيلته . لم يغب عنه مع تقادم الزمن .
كان ذلك عندما حاولت الخاله ان تدافع عن زوجها و تمنعهم من اعتقاله .
ركلها احدهم على خاصرتها ، و فج رأسها الآخر .
رأى الدماء تندفع كنافوره ، من تحت حجابها ،
و قد تلون وجهها الجميل بالاحمر القاني .
غابت فجأة ابتسامتها اللطيفه التي لم تكن تفارقها .
رآها ترتجف كأنها اصيبت بنزلة برد شديده .
لم تصرخ او تتالم ، لم تتحدث باي شئ .
ما لبثت ان فقدت وعيها بعد بضع دقائق.
زارها في اليوم التالي برفقة امه . كانت ممده بلا حراك ،
و اللفافات غطت رأسها الى عنقها ، بدت كأنها ملثمه .
لم ينقطع النزيف ، تبللت الوساده البيضاء تحت رأسها و تغير لونها للاحمر.
جثى على ركبتيه بالقرب منها.
قبّل يدها كعادته كما يقبِّل يد امه ، هكذا كان يصنع منذ ان وعي على الحياة .
جلس لا يدري إن كانت خالته حية ام ميته .
كان يريد ان يبكي ، شعر ان كل شئ داخله يئن ،
كل دموع العالم تتجمع في عينيه ، لكن الدموع استعصت داخلهما .
- الرجال لا يبكون !
قالها عمه ذات يوم ، عندما رآه يبكي بعد عراك مع طفل آخر .
ظلت تلك الجمله عالقه في ذهنه ، كلما شعر بحاجة للبكاء تذكرها ،
فتنحبس الدموع في عينيه ، حتى ظنه البعض بقساوة القلب .
رأى اباه و اعمامه يبكون يوم وفاة جدته ،
رأى رجال آخرون يبكون في مناسبات حزينه ، كل هذا لم يقنعه بالبكاء .
راقب الدموع تنهال من مقلتي امه ،
و بقية النسوة اللواتي اجتمعن في هذه الغرفة الصغيره يبكين ايضا .
حاولت ام حمزه جارة الخاله و صديقتها أن تكلمها ، نادتها :
سلوى .. سلوى ، دون جدوى .
القلب لا يزال ينبض ، اذن هي على قيد الحياة.
الغطاء كان يتحرك مع شهيقها و زفيرها ، لكنها لم تحرك طرفا من اطرافها .
بللت امه قطعة قماش نظيفة بالماء و فتحت فمها و عصرت قطرات قليله .
كان الماء يخرج من طرف الفم . رأى على وجه امه الاسى و الحزن الشديدين.
حملت سليمان الذي اكمل الخمسة أشهر منذ ايام ،اخذت تمسح على رأسه .
تمشي به يمينا و شمالا ، تهزه بلطف .
حاولت ان تهدئه ، إلا أن بكاءه لم يتوقف .
ربما كان جائعا ، يريد ان يرضع .
ما لبث سليمان أن مات بعد بضعة ايام .
ابى الرضاعة من بعض النسوة اللاتي تبرعن بذلك .
بقي يبكي حتى سكت فجأه . ظنوا انه نام ،
إلا أن صرخات امه أكدت له أن الرضيع قد فارق الحياة .
كان المشهد مريعا بالنسبة لاحمد :
خالته بين الحياة و الموت، ابنها الرضيع الذي احبه حبا جما قد مات .
و منظر الجندي يضرب خالته بعقب البندقيه ماثل في ذهنه و ملازم له .
تمنى لو انه لم يأت ليلعب بالقرب من بيت خالته حتى لا يرى ما رأى!
و تمنى لو انه كان رجلا بيده بندقية في ذلك الوقت .
تمنى لو ان الارض تبتلع الجنود .. لو ان السماء تمطر رصاصا على رؤوسهم .
و تمنى لو يرى خالته من جديد ، بإبتسامتها الجميله ، و قلبها الحنون .
تمنى لو تطبع قُبلة على وجهه ، و يطبع قُبلة على يدها .
عندما سار بعد اسبوعين خلف جنازتها ، قرر ان ينتقم لها .
ينتقم ممن سبب لشعبه المآسي و الالام .
ينتقم لوطنه من المحتل الذي اوجد كل هذا القهر و الظلم .
لم يكن يعرف كيف يكون الانتقام و متى.
لكنه كان متاكد ان المنظر المؤلم لن يغادره ، و انه يجب ان يكره هؤلاء القتله ،
و يجب ان يكون للكراهية فعل ما في يوم ما!
سبعة عشر عاما لم تمح من ذاكرته ذلك المشهد :
الجندي .. اللكنة الغريبه.. كعب البندقيه ..
الاحمر القاني ، و ارتطام جسد خالته على الارض .
سبعة عشر عاما و هو يسمع بكاء الرضيع ، و صورة امه تبكي عليه و على والدته .
عندما وجد نفسه قريبا من ذاك الجندي ،
على الحاجز الذي اعمل ذلا و مهانة بأصحاب الارض .
سبحت ذكرياته بعيدا ، عادت فجأة ايام الطفوله ، عندما كان في السادسه .
عادت بكل احداثها. اخذت الافكار و ذكريات الماضي تتداخل بسرعة .
تخيل ان الجندي هو نفسه الذي انقض على خالته و ارداها ،
قال في نفسه إن لم تكن خالته ،
فهو لا بد فعل ذلك مع خاله من الخالات الفلسطينيات .
نسي انه ذاهب لامتحان الثانويه العامه ، و ان آمال اهله بالتفوق في الانتظار .
نسي الشهاده و الجامعه و المستقبل.
غابت عنه الاحلام الكبيره التي خطط لتحقيقها.
كل ما كان امامه صورة الخالة المسجاة ، و الطفل الرضيع الذي احبه حبا جنونيا .
و زوج خالته المكبل القابع وراء القضبان منذ سبعة عشرة عاما .
كانت السيارة تقترب ببطء شديد بإتجاه الجندي الذي استمرأ السادية ،
و اعمل تنكيلا بالبسطاء من شعبه.
لاول مرة يرى الجندي المدجج قزما ،
يستطيع ان يمسكه بكفة يده و يعصره حتى يختنق .
رأى نفسه عملاق لا تتسع له السياره و لا الفضاء.
كلما اقتربت السيارة من الجندي يراه من مقعده الخلفي قد انكمش و تضاءل .
و كلما اقتربت السيارة ، كانت الصور القديمة و الجديدة اكثر وضوحا .
هو لم يعرف الجبن و الخوف ، لكنه الآن في اوج شجاعته .
عندما توقفت السيارة بالقرب من الجندي ،
و قبل ان يسأل عن البطاقات و يمارس ساديته ،
ترجل بسرعة و انقض على الجندي كالاسد .
انتزع منه بندقيته و ضربه ضربةً واحدة بأخمصها فج رأسه .
ارتمى الجندي بلا حراك ، كانت الدماء تتدفق كنافورة من رأسه .
تماما كنافورة الدماء التي رآها قبل سبعة عشرة عاما .
قبل ان يوجه البندقية لبقية الجنود ،
بادره جندي مختبئ وراء اكياس رمليه على البرج،
فأطلق زخات من الرصاص ادت لاصابته .
ابتسم و رفع سبابته و نطق بالشهادة قبل ان يلفظ انفاسه الاخيره .
ماهر الصديق