recent
أخبار الساخنة

الرجال لا يبكون "قصة قصيره" بقلم : ماهر الصديق

الصفحة الرئيسية


لم تفارقه صورة الجندي و هو يهوي بكعب بندقيته على رأس 

خالته سلوى عندما كان في السادسه من عمره . 

بقي المشهد حيا في مخيلته . لم يغب عنه مع تقادم الزمن . 

كان ذلك عندما حاولت الخاله ان تدافع عن زوجها و تمنعهم من اعتقاله .

ركلها احدهم على خاصرتها ، و فج رأسها الآخر .

رأى الدماء تندفع كنافوره ، من تحت حجابها ،

و قد تلون وجهها الجميل بالاحمر القاني .

غابت فجأة ابتسامتها اللطيفه التي لم تكن تفارقها . 

رآها ترتجف كأنها اصيبت بنزلة برد شديده .

لم تصرخ او تتالم ، لم تتحدث باي شئ . 

ما لبثت ان فقدت وعيها بعد بضع دقائق. 

زارها في اليوم التالي برفقة امه . كانت ممده بلا حراك ،

و اللفافات غطت رأسها الى عنقها ، بدت كأنها ملثمه .

لم ينقطع النزيف ، تبللت الوساده البيضاء تحت رأسها و تغير لونها للاحمر. 

جثى على ركبتيه بالقرب منها.

قبّل يدها كعادته كما يقبِّل يد امه ، هكذا كان يصنع منذ ان وعي على الحياة . 

جلس لا يدري إن كانت خالته حية ام ميته .

كان يريد ان يبكي ، شعر ان كل شئ داخله يئن ، 

كل دموع العالم تتجمع في عينيه ، لكن الدموع استعصت داخلهما .

- الرجال لا يبكون !

قالها عمه ذات يوم ، عندما رآه يبكي بعد عراك مع طفل آخر .

ظلت تلك الجمله عالقه في ذهنه ، كلما شعر بحاجة للبكاء تذكرها ،

فتنحبس الدموع في عينيه ، حتى ظنه البعض بقساوة القلب .

رأى اباه و اعمامه يبكون يوم وفاة جدته ،

رأى رجال آخرون يبكون في مناسبات حزينه ، كل هذا لم يقنعه بالبكاء . 


راقب الدموع تنهال من مقلتي امه ،

و بقية النسوة اللواتي اجتمعن في هذه الغرفة الصغيره يبكين ايضا .

حاولت ام حمزه جارة الخاله و صديقتها أن تكلمها ، نادتها :

سلوى .. سلوى ، دون جدوى .

القلب لا يزال ينبض ، اذن هي على قيد الحياة. 

الغطاء كان يتحرك مع شهيقها و زفيرها ، لكنها لم تحرك طرفا من اطرافها .

بللت امه قطعة قماش نظيفة بالماء و فتحت فمها و عصرت قطرات قليله .

كان الماء يخرج من طرف الفم . رأى على وجه امه الاسى و الحزن الشديدين. 

حملت سليمان الذي اكمل الخمسة أشهر منذ ايام ،اخذت تمسح على رأسه . 

تمشي به يمينا و شمالا ، تهزه بلطف .

حاولت ان تهدئه ، إلا أن بكاءه لم يتوقف .

ربما كان جائعا ، يريد ان يرضع .

ما لبث سليمان أن مات بعد بضعة ايام .

ابى الرضاعة من بعض النسوة اللاتي تبرعن بذلك .

بقي يبكي حتى سكت فجأه . ظنوا انه نام ،

إلا أن صرخات امه أكدت له أن الرضيع قد فارق الحياة .

كان المشهد مريعا بالنسبة لاحمد : 

خالته بين الحياة و الموت، ابنها الرضيع الذي احبه حبا جما قد مات .

و منظر الجندي يضرب خالته بعقب البندقيه ماثل في ذهنه و ملازم له .

تمنى لو انه لم يأت ليلعب بالقرب من بيت خالته حتى لا يرى ما رأى!

و تمنى لو انه كان رجلا بيده بندقية في ذلك الوقت .

تمنى لو ان الارض تبتلع الجنود .. لو ان السماء تمطر رصاصا على رؤوسهم .

و تمنى لو يرى خالته من جديد ، بإبتسامتها الجميله ، و قلبها الحنون .

تمنى لو تطبع قُبلة على وجهه ، و يطبع قُبلة على يدها . 


عندما سار بعد اسبوعين خلف جنازتها ، قرر ان ينتقم لها .

ينتقم ممن سبب لشعبه المآسي و الالام . 

ينتقم لوطنه من المحتل الذي اوجد كل هذا القهر و الظلم .

لم يكن يعرف كيف يكون الانتقام و متى.

لكنه كان متاكد ان المنظر المؤلم لن يغادره ، و انه يجب ان يكره هؤلاء القتله ،

و يجب ان يكون للكراهية فعل ما في يوم ما!

سبعة عشر عاما لم تمح من ذاكرته ذلك المشهد :

الجندي .. اللكنة الغريبه.. كعب البندقيه ..

الاحمر القاني ، و ارتطام جسد خالته على الارض .

سبعة عشر عاما و هو يسمع بكاء الرضيع ، و صورة امه تبكي عليه و على والدته .

عندما وجد نفسه قريبا من ذاك الجندي ، 

على الحاجز الذي اعمل ذلا و مهانة بأصحاب الارض .

سبحت ذكرياته بعيدا ، عادت فجأة ايام الطفوله ، عندما كان في السادسه .

عادت بكل احداثها. اخذت الافكار و ذكريات الماضي تتداخل بسرعة .

تخيل ان الجندي هو نفسه الذي انقض على خالته و ارداها ،

قال في نفسه إن لم تكن خالته ،

فهو لا بد فعل ذلك مع خاله من الخالات الفلسطينيات .

نسي انه ذاهب لامتحان الثانويه العامه ، و ان آمال اهله بالتفوق في الانتظار .

نسي الشهاده و الجامعه و المستقبل.

غابت عنه الاحلام الكبيره التي خطط لتحقيقها.

كل ما كان امامه صورة الخالة المسجاة ، و الطفل الرضيع الذي احبه حبا جنونيا .

و زوج خالته المكبل القابع وراء القضبان منذ سبعة عشرة عاما .

كانت السيارة تقترب ببطء شديد بإتجاه الجندي الذي استمرأ السادية ،

و اعمل تنكيلا بالبسطاء من شعبه.

لاول مرة يرى الجندي المدجج قزما ،

يستطيع ان يمسكه بكفة يده و يعصره حتى يختنق . 

رأى نفسه عملاق لا تتسع له السياره و لا الفضاء.

كلما اقتربت السيارة من الجندي يراه من مقعده الخلفي قد انكمش و تضاءل .

و كلما اقتربت السيارة ، كانت الصور القديمة و الجديدة اكثر وضوحا .

هو لم يعرف الجبن و الخوف ، لكنه الآن في اوج شجاعته . 

عندما توقفت السيارة بالقرب من الجندي ،

و قبل ان يسأل عن البطاقات و يمارس ساديته ،

ترجل بسرعة و انقض على الجندي كالاسد .

انتزع منه بندقيته و ضربه ضربةً واحدة بأخمصها فج رأسه .

ارتمى الجندي بلا حراك ، كانت الدماء تتدفق كنافورة من رأسه .

تماما كنافورة الدماء التي رآها قبل سبعة عشرة عاما .

قبل ان يوجه البندقية لبقية الجنود ،

بادره جندي مختبئ وراء اكياس رمليه على البرج،

فأطلق زخات من الرصاص ادت لاصابته .

ابتسم و رفع سبابته و نطق بالشهادة قبل ان يلفظ انفاسه الاخيره .



ماهر الصديق 







google-playkhamsatmostaqltradent