recent
أخبار الساخنة

التغيير بين الرغبة / الحاجة وما يشبه الشيء بقلم الدكتور حسين صفي الدين

الصفحة الرئيسية




تنوّع الحاجات تتنوّع الرغبات، وتختلف القُصُود، وتختلف الأشياء موضوع الرغبة، وهذا الشيء المرغوب به، إما أن يكون قائماً أو حاضراً أو غائباً، نتصوره، ونترواه ذهنياً، ونصوغ له جملة صفات تلائم هذه الرغبة «الحاجة» وتلبيها. عندها فعل الرغبة هذا، ينطلق للعمل تلقائياً مدفوعاً بكل طاقة الرغبة هذه، وبالتأكيد نحو قصده موضوع الرغبة. هذا الفعل ينتهي عادة بامتلاك هذا الشيء، المخصوص، ومن خلال العلاقة مع موضوع الرغبة هذا نكتشف أن ما حصلنا عليه ليس الشيء المتصوّر وإنما ما يشبه هذا الشيء، وتبدأ عملية تطويع الحاجة/الرغبة لتتلاءم مع ما يشبه الشيء عملية صعبة ومعقدة لإقناع أنفسنا بأن هذا «الما يشبه الشيء» هو الشيء ذاته. ولكن هذا لا ينفي أن الرغبة أصبحت واقعاً بالرغم من كونها ليست حقيقية. هذا هو المعيش اليومي للبشر في العلاقة البيدوية مع الآخر وكذلك مع الأشياء التي نرغب بها، أو مع حاجاتنا ورغباتنا في طلب مشروع حياة عملية. لا شك أن هذه الخيبات التي تتركها هذه التجربة، وفي عملية تقييم أولية تكمن في عدم التطابق بين المتصوَّر والواقع والسبب في عدم توافر الشروط الضرورية لنجاح أيّ «تجربة» حيث تكون التصورات أكثر «تفاؤلاً».
لكن ماذا عن الرغبة في التغيير السياسي الذي يحمل دائماً بعداً راديكالياً على مستوى المجتمعات. حيث الشروط أكثر تعقيداً وأكثر شمولية. والموضوعي فيها يتقدّم على الذاتي. والمشكلة هنا ليست الرغبة ذاتها، لأن عملية التغيير هي عملية تاريخية ومتلازمة مع أي بنى سياسية اقتصادية مجتمعية ثقافية... إذاً هي حاضرة دائماً في صيرورة الحياة البشرية، بالتالي تكون الرغبة في هذه الحالة أمام امتحان صعب، واستحقاقات أكثر صعوبة وشروط أكثر تعقيداً. لأننا هنا نتعامل مع التاريخ وقوانينه، مع مجتمعات لها بنيتها الطبقية، وأيديولوجيتها، وعلاقات الإنتاج التي تحكمها، وثقافة المهمين، وهنا أيضاً نتعامل مع نتيجة هذه البنى من بنية طبقية موازية ومصالح متعارضة بالضرورة مع الطبقة المهيمنة. إذاً هي عملية تاريخية في قلب حركة التاريخ ومساراته.
 

في النموذج الفرنسي ثورة 1789، الحاجة التي أنتجت الرغبة بالتغيير تطابقت مع شروط تاريخية بلغت حدود النضج، أنتجت بيئة «جاهزة» لقبول واستيعاب أفكار وشعارات وأهداف الثورة، وهذا التغيير برز كضرورة وليس كغواية، وهنا الرغبة أصبحت تلبية لحاجة موضوعية للانتقال إلى مرحلة جديدة ضرورية لاستمرار العملية التاريخية. فالسلطة الإقطاعية كانت قد عاشت حياتها لقرون وقرون واستنفدت كل مخزونها من العنف الجسدي، الثقافي والفكري، وبانت هرمة عاجزة لا تقوى على تقديم أي جديد. هذا الشرط لم يكن بحد ذاته كافياً، لولا نشوء طبقة جديدة كانت قد ثبتت أقدامها مع التقدّم العلمي والتطور الاقتصادي والصناعي، حيث تحقق تزاوج الرأسمال والثروات الآتية من المستعمرات وبخاصة بعد قرنين من اكتشاف أميركا واستعمارها حيث بدأ المجتمع البرجوازي الصناعي يتقدّم كعصب محوري في الاقتصاد والتطور الاجتماعي والتحوّلات في البنى الاجتماعية: «المدن». إذاً، الثورة الفرنسية جاءت في شروطها التاريخية، فكُتب لها الانتصار، وإنجاز التغيير الجذري من المَلكية إلى الجمهورية وحكم المؤسسات، وفصل السلطات، والمدرسة العلمانية تحت شعار الحرية والمساواة والإخاء. كما استدعت الفكر العقلاني وجعلته أيديولوجيتها لمواجهة الفكر اللاهوتي، وفي آن لتعميم هيمنة البرجوازية وسيادتها على المجتمع، فاعتبرت المجتمع مجتمعاً برجوازياً وحاولت إلغاء أي فوارق أو اختلافات على مستوى الموقع الطبقي أو أي أيديولوجية مختلفة.
ثورة أخرى انتصرت في العام 1917 هي الثورة الاشتراكية في روسيا بقيادة البلاشفة. في ظل ظروف صعبة، ومعاناة كبيرة للشعب الروسي، وهزيمة القيصر في الحرب اليابانية 1905، هذه الهزيمة هزّت الصورة البطريركية للقيصر المعتبر أب الأمة، وعليه حمايتها. هذه الأوضاع مجتمعة شكلت بيئة مناسبة وحافزاً كبيراً لإسقاط سلطة القيصر. فكانت ثورة شباط «حكومة كيرينسكي» البرجوازية التي لم تقو على معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وهي لم تستطع الاستمرار لأكثر من ثمانية أشهر، فكان البلاشفة في حالة من التأهب والاستعداد للانقضاض على السلطة، وإقامة «سلطة العمال والفلاحين» تحت شعار «وقف الحرب» التي أطلقوا عليها «الحرب الإمبريالية» وإقامة سلطة السوفيات وكهربة البلاد. متبنية الماركسية أيديولوجية لها. وإذا تأمّلنا هذين الشعارين نرى أن شعار إيقاف الحرب كانت له الأولوية في تأييد البلاشفة، وبخاصة أنه لقي قبولاً في الجيش وتوقه إلى إيقاف الحرب. فتركيبة الجيش كانت بغالبيتها من الفلاحين.
 

لا شك أن أوضاع القيصرية الروسية شكلت شرطاً تاريخياً موضوعياً للانقلاب عليها ولكن السؤال الذي طُرح ويُطرح الآن هل كانت عناصر نجاح ثورة البلاشفة متناسبة مع الشروط الضرورية للثورة الاشتراكية على أسس ماركسية، حيث للطبقة العاملة دور محوري في إنجازها؟ وفي ظل سلطة البلاشفة والنظام الاشتراكي وطرح لينين نظرية التطور اللارأسمالي، هذا الشعار الذي يَعتبر ضمناً أن المرحلة الرأسمالية هي صناعة تنتج طبقة عاملة بغياب علاقات إنتاج رأسمالية، في إهمال كامل للطبيعة التاريخية للمجتمع الرأسمالي،
إن هذا الفهم يعكس التناقض مع الفهم الماركسي التاريخي للتشكيلات الاجتماعية الطبقية الذي يعتبر أن الطبقة العاملة ضرورية لبناء السلطة الاشتراكية. وعليه، فلا بد من إنتاجها من خلال تطوير الصناعة، في ظل السلطة البلشفية ذاتها، في إهمالٍ كامل للمرحلة الرأسمالية.
المجتمع الرأسمالي، بحسب ماركس، تشكيل له دوره في العملية التاريخية، وهو يأخذ «دوره الثوري» في القضاء على النظام الإقطاعي، لتحل محله علاقات إنتاج جديدة، وبنى سياسية جديدة، وثقافة جديدة، وأيديولوجيا جديدة، وفي آن، وفي مساره التاريخي، ينتج الطبقة النقيضة له (الطبقة العاملة). والطبقة العاملة لا تتجاوز هذا الواقع إلا بالوعي، وبقدر وعيها لبؤسها واستغلالها ولدورها في عملية الإنتاج، تصير ثورية من خلال هذا الوعي الطبقي وتشكيل حزبها الثوري، وهذه الصيرورة لها مسارها وحركة نموها وتطورها، وهي لا تكون معزولة على الإطلاق عن واقع البنى الرأسمالية المهيمنة، لأنه متى بلغت هذه التناقضات مستوى لا يمكن تجاوزه إلا بالثورة يكون التغيير وتكتمل عملية النفي.
 
إن استخدامات التكنولوجيا، وتطويرها لتلبية حاجات الناس ورفع مستوى حياتهم باستمرار عبر تلبية «حاجات» حتى لو كانت وهمية، كل ذلك جرّد كل احتجاج، وكل معارضة من سلاحها

إن هذا الإهمال، لمرحلة تاريخية مهمة وضرورية، هي الحلقة المركزية الغائبة (أو المغيبة) في عملية البناء الاجتماعي في روسيا والاتحاد السوفياتي. فالطبقة العاملة التي أُنتجت في ظل سلطة البلاشفة لم تلعب دورها الثوري في الوعي والتجربة، حيث ذهبت هذه السلطة الجديدة عبر المؤسسات الناشئة، إلى شكل من أشكال رأسمالية الدولة، سلطة بيروقراطية، فتحولت سلطة السوفياتات إلى تجريبية بلا مبادئ، والتخطيط الموجه من قبل البيروقراطية تحول إلى عنف ضد الواقع. وغاب التحليل في فهم الواقع وغلبت الإرادوية وعملية تطويع التاريخ، وطغى التبرير على النقد، عبر مفاهيم مفروضة، والنظرية تحولت إلى علم محض جامد. والمجتمع والبشر والأفراد باتوا يخضعون قبلِيّاً للأفكار حيث انحسرت حيويتها. والصراع بين العمل الثوري والتبريرية في ظل غياب حركة النقد، منع الإنسان «الشيوعي» من وعي نفسه وعياً حقيقياً. إن الإرادة الطيبة للبلاشفة في العدالة الاجتماعية، والمساواة وتأمين شروط كريمة للشعوب لا شك كانت حاضرة كمبدأ وكممارسة في إعطاء حق المستعمرات الروسية حق تقرير المصير، ودعمها لحركات التحرر في العالم. ولكن هذه الإرادة لم تقو على الصمود في بنائها، لأنها لم تتلاءم مع الشروط التاريخية للثورة الاشتراكية. وحاولوا إخضاع حركة التاريخ وتطويعها «لإرادتهم» فكانت «الاشتراكية المحققة» مع النظرية اللينينية (التطور اللارأسمالي) ضد التاريخ – فكان السقوط.
 


حركات التحرر وثورات التغيير في ظل الحرب الباردة
كان القرن التاسع عشر عصر التوسع الاستعماري الكولونيالي، أمّا القرن العشرين فشهد ذروة الصراع بين القوى الاستعمارية الكبرى، تجلّى في حربين عالميتين حصدت الدمار في أوروبا وفي العالم بأسره، فقد شهد هذا القرن أيضاً نشوء قوة استعمارية جديدة، الولايات المتحدة الأميركية، التي بدأت بتدخلاتها عبر المحيط (أوروبا تحديداً)، محاولة أن تكون شريكة، أو بديلاً للقوى الاستعمارية القديمة وقيادة للعالم الرأسمالي، هذا القرن شهد أيضاً تحولاً تاريخياً في نشوء أول دولة اشتراكية في روسيا، وجملة التغييرات التي أحدثتها في العالم الرأسمالي كما في البلدان المستعمرة والدول النامية في آسيا وأفريقيا، وأميركا الوسطى والجنوبية. إنه قرن نشوء الأحزاب الشيوعية والقومية التقدمية واليسارية والاتحادات العمالية، ما أعطى حيوية للحياة السياسية في غالبية بلدان العالم التي عانت من الاستعمار الكولونيالي.

الثنائية القطبية والحرب الباردة
في ظل هذا الصراع الدولي وانقسام العالم إلى معسكرين، برزت الثنائية القطبية. هذه اللاحصرية، خفضت الضغط الإمبريالي على الشعوب المستعمرة. وأخذت حركات التحرر التي لاقت الدعم والتضامن من الاتحاد السوفياتي وحلفائه، كان هذا القرن قرن الحروب الإقليمية الممتدة على جغرافية العالم.
 

بداية القرن العشرين، ومع الرئيس الأميركي وودرو ويلسون انطلقت الولايات المتحدة في مشروعها عبر المحيط. كانت الاستراتيجية الأميركية عدم دخول الحرب العالمية الأولى إلا بعد سقوط الإمبراطوريتين – الروسية والنمساوية المجرية (الألمانية) وهذا ما حصل عام 1917. ولكن المفاجأة التي أعاقت هذا المشروع سيطرة البلاشفة على السلطة في روسيا.
في الحرب العالمية الثانية تكرر ذلك، فالولايات المتحدة لم تدخل الحرب إلا بعد أن فُتحت أبواب أوروبا أمام الجيش الأحمر، وأصبح الهدف الأميركي في دخول الحرب هو الحد من تقدّم الجيش الأحمر والحؤول دون اجتياح أوروبا بكاملها.
وضعت خطة أميركية لمواجهة الخطر الآتي من الشرق، من خلال مشروع مارشال «لإعادة بناء أوروبا» وتكريس وجود عسكري أميركي في ألمانيا، لا يزال حتى اليوم. وفي ظل المعارك الطاحنة على الجبهات، كانت الولايات المتحدة تحصن موقعها للتمدد الجغرافي – والاقتصادي في العالم – لترث الدول الاستعمارية القديمة، بريطانيا وفرنسا... وفي مصادر الطاقة (لقاء روزفلت – عبد العزيز شباط 1945 عند عودة الرئيس الأميركي من مؤتمر يالطا).
تبعه مؤتمر بريتون وود تموز 1944 الذي شاركت فيه 44 دولة، والذي ثبت قاعدة صرف العملات بالدولار الأميركي الذهبي، وتحول الدولار إلى عملة دولية. وتأسس البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، هاتان المؤسستان ما زالتا حتى اليوم تتحكمان بمصير العملات في العالم، والمعاملات التجارية، وإحدى أقوى الأسلحة الأميركية في السيطرة. وأسست حلف «الناتو» 1949 الذي تبعه إعلان حلف وارسو في العام 1955، وكان تأسيساً للحرب الباردة.
 

في ظل الحرب الباردة وفي المركز الرأسمالي شهدت الحركات اليسارية والأحزاب الشيوعية والنقابية انطلاقة لنشاطها بقيادة الطبقة العامة والفئات الشعبية ضد الرأسمالية الحاكمة. وشهدت البلدان المستعمرة انطلاقة كبيرة لقوى التحرر الوطني، ومع العام 1978 انتهى الاستعمار الكولونيالي في العالم وما بقي منه هو الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.
لقد كان الدعم السوفياتي والمعسكر الاشتراكي له الدور الحاسم في تأسيس هذه الحركات التحررية والثورية. وأعطاها القدرة والحماية بمواجهة القوى الإمبريالية بعد قرون من القمع، والإرهاب والاحتلال المباشر لهذه البلدان. ومن ناحية ثانية كان المشروع الأميركي قد بنى عناصر القوة لقيادة العالم الرأسمالي، اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وفي آن في تطوير أيديولوجيته ومحاولته لجعل النظام الرأسمالي القائم على العلاقة اللاعقلانية للسيطرة أكثر مقبولية. في ظل تطور التكنولوجيا وما حدث من إعادة إنتاج لوسائل إنتاج جديدة، كانت الرأسمالية قادرة على تخطي أزماتها الدورية عبر الحروب، أو من خلال دفع القوى الفاشية (الأحزاب الاشتراكية القومية) ودعمها لمواجهة الحركة العمالية وأحزابها الثورية. ولكن بعد الحرب، وبالتوجهات الجديدة للرأسمال المالي الأميركي، كان العمل بالتوازي على جبهة إعادة تكوين وعي جديد، من خلال التطور التكنولوجي الذي أحدث تحوّلات على مستوى الوعي الاجتماعي وعلى مستوى الثقافة والصراع الطبقي، من خلال خلق حاجات مصطنعة، أو مفروضة بحكم الواقع، أو حاجات وهمية تعمم عبر الدعاية والتسويق من خلال وسائل الإعلام ووسائل الاتصال، وعبر تثبيت هذا الوهم وتمويه انقسام المجتمع الطبقي، وإحلال مظهر الشراكة الاجتماعية، ووهم المساواة في التفاصيل الاجتماعية اليومية. إن استخدامات التكنولوجيا، وتطويرها لتلبية حاجات الناس ورفع مستوى حياتهم باستمرار عبر تلبية «حاجات» حتى لو كانت وهمية، كل ذلك جرّد كل احتجاج، وكل معارضة من سلاحها عبر قدرة هذا المجتمع المتقدّم أن يثبت يومياً قدرته على تنمية الإنتاج وتأمين حياة رفاه لأعضائه في المراكز الرأسمالية بخاصة. واستحدث القروض لتلبية الرفاهية المصطنعة وتعزيز الاستهلاك، وتعزيز الأوهام. وهل هذه القروض سوى تعزيز للوهم وتكريس العبودية المأجورة؟ كل هذا ما خلق نوعاً من التماهي بين رب العمل والعامل، فموظف الشركة أو الوظيفة يرتديان ملابس لا تقل أناقة عن ملابس ابن مستخدميهم، والأميركي من أصول أفريقية وفي ظل حرمانه من حقوقه المدنية، يستطيع أن يمتلك سيارة فارهة. وهذا ما يخلق وهماً بأن الطبقات قد زالت.
 

إن مجموعة قواعد سلوكية، وحواجز أخلاقية، كانت فرضت كجزء من ثقافة اجتماعية مهيمنة أدت إلى تعزز الرقابة الذاتية الداخلية، فهذه السلوكيات الشكلية باتت تشعر الفرد بالغربة في حالة عدم ممارستها. والحاجات الوهمية التي ثُبتت في الوعي المستجد تضع الفرد بموقع الخائف من فقدانها والتمسك بها، على حساب حاجاته الحقيقية، التي أضحت أقل أهمية من خلال وهم جديد بأن الطبقات قد زالت. وما كان لهذا أن يحصل من دون ربطه بعملية التخفيف من حدة التناقضات بين واقع الثقافة والواقع الاجتماعي عبر دمج قيم الثقافي مع الاجتماعي الحامل لِكم كبير من الأوهام، فقُيدت هذه الثقافة ضمن حدود قواعد هذا الاجتماعي المحددة، والثقافة التي بالضرورة تتضمن ثنائية البعد. وعبر هذه الثنائية يحصل تمييز بين الواقع وبين ما يمكن أن يكون، وتالياً ما يجب أن يكون، وتصبح ثقافة البعد الواحد في المجتمع الرأسمالي التكنولوجي بضاعة.
الرأسمالية، وفي مرحلتها الإمبريالية في ظل أزماتها وجشعها الأقصى، تنكّرت لكل القيم التي كانت تبنتها، فأضحت مجتمعاتها أقل حرية وأقل مساواة وأقل إخاء وكذلك أقل عقلانية
 

وإذا كان الفن، الذي هو الرفض الكبير كما اعتبره نتيشه الذي رأى في موسيقى فاغنر البعد الآخر لفلسفته. كل ذلك ابتُلع عبر عالم الأعمال. واللغة بدورها أصبحت لغة منغلقة على ذاتها، منعزلة عبر تاريخها، إبعادها، ومقفلة على كل العوالم التي سبقتها، وأضحت لغة اللحظة، لغة جزئية ثابتة تجعل كل فرد يعيش في مداره الخاص من دون الاهتمام بمحاولة وعي الحالة العامة.
في هذه الحالة يكون المجتمع الصناعي قد زيف حياة الإنسان المادية كما حياته الفكرية، لأن الفكر، والوعي الحقيقي هما العدوان لمجتمع السيطرة. الوعي يكون عدواً لأنه انعكاس لقوة العقل النقدية التي تتحرك باتجاه ما يجب أن يكون، وهذا الزيف جعل من إحلال المدنية التقنية أيديولوجية بديلة. من خلال الالتزام بالوعي المعطى، ورفض المفاهيم النقدية. وما عجزت عن تحقيقه القومية الاشتراكية الفاشية، حققته الرأسمالية الحديثة، عبر استخدام التكنولوجيا، وإعطائها أبعاداً تطاول كل جوانب الحياة البشرية، عبر أشكال ديموقراطية مبتكرة وسلسة تتخطى الحدود القومية. من ناحية ثانية فالطبقة العاملة وأمام عجز أحزابها «الثورية» بقيت أسيرة أيديولوجيتها المُصاغة من دون تجديد أو تطوير. السؤال هل الأيديولوجية الرأسمالية التي بنت توجهاتها مع تطور التكنولوجيا هي بديلة للعنف الطبقي المباشر لصياغة علاقة التواصل بين القوى الاجتماعية؟ بهذه العدة الأيديولوجية الاقتصادية المالية والعسكرية الأمنية دخل الغرب الرأسمالي الحرب الباردة، في مواجهة تجربة اشتراكية محققة أعطت للطبقة العاملة العالمية وللشعوب المضطهدة الأمل بالتغيير والتحرر.
 

يبدو أن التاريخ فرض سطوته وقوانينه بعد معاندة دامت سبعة عقود... وخسرت شعوب العالم هذا الداعم لقضاياها المحقّة، والذي تمتع بالإرادة الطيبة، في المساواة والعدالة والتوازن الدولي. ويبدو أيضاً أن الإرادة الطيبة غير كافية. إنها جدلية التاريخ في الوعي والممارسة، الرأسمالية كما هي في مرحلة الإمبريالية.

حركات التحرر في ظل الحرب الباردة
إن القوى التغييرية في ظل الأنظمة المرتبطة بالأميركيين جلّها ديكتاتوريات فاشية في أميركا اللاتينية، وأفريقيا وآسيا، والتي خاضت معارك ضد هذه الأنظمة، بقيت أكثر تماسكاً، وأكثر ثوريةً، نتيجة هذا الصراع القاسي، مثال القوى الديموقراطية في تشيلي ونيكاراغوا وكولومبيا، وفيزويلا، وكوبا وغيرها. هذه القوى وبعد سقوط المعسكر الاشتراكي بقيت أكثر صلابة نتيجة المناعة الثورية التي اكتسبتها في ظل نضالها ضد الطغم الحاكمة. في الدول حيث كانت الأنظمة متحالفة مع الاتحاد السوفياتي، أنظمة برجوازية صغيرة وطنية رفعت شعار التقدم والتحرر ومواجهة الإمبريالية، في هذه البلدان وفي ظل تأمين المصالح فرض الاتحاد السوفياتي على الأحزاب اليسارية القومية والاشتراكية شكلاً من أشكال المساومة مع هذه الأنظمة تحت شعار تغليب الصراع مع الإمبريالية والغرب الرأسمالي على واقع الديموقراطية في هذه البلدان والحرية السياسية والفكرية بتبريرات أيديولوجية جوهرها التطور اللارأسمالي مقدمة لتوجه هذه الأنظمة نحو الاشتراكية، وإخضاع مسار هذه الأحزاب لعلاقة ملتبسة مع هذه الأنظمة.
 


حركات التحرر العالمية في ظل أحادية القطب والهيمنة الأميركية
في لحظة سقوط الاتحاد السوفياتي، انتابت حركات التحرر والأحزاب التغييرية حالة من عدم الوضوح على المستوى الفكري كما على مستوى البرامج السياسية، وفقدت روح المبادرة وبدأت بدفع أثمان باهظة على مستوى ثقة الجماهير فيها، وعلاقتها بالواقع.
لقد أصبحت كالغزال في مواجهة ضوء في العتمة، أو كمثل الغراب الذي لم يقو على المسير، أو كطفلٍ فقد أبويه. فبعض القوى، ارتدت إلى الأصولية، والبعض الآخر، انبهر بالواقع الجديد، و«أقنعت!» بنهاية التاريخ بانتصار الرأسمالية الليبرالية، وذهب ليبحث عن موقع له في هذه المسيرة الرأسمالية والالتحاق بأطر مؤسساتها الاجتماعية والمدنية، وبعضها عاش أسير تاريخه النضالي فعمل على إعادة صياغة هذا التاريخ عبر سرديّات، وقصص، وأساطير يمني نفسه بها من دون خلق أي جديد، محبّذاً حياة «الكهف» رافضاً رؤية الحقيقة.
بإيجاز، القوى الثورية التي مارست نضالها ضد الأنظمة الديكتاتورية المرتبطة بالفلك الأميركي – الغربي، بقيت أكثر مناعة، اكتسبتها بالممارسة وهامش الاستقلالية الذي فرضته الوقائع السياسية في بلدانها، حيث لم تتعود على المساومات في ظل الصراع الحقيقي. أمّا الحركات والأحزاب، في ظل «الأنظمة الوطنية» المرتبطة بالفلك السوفياتي كانت أقل مناعة، وأكثر عجزاً، عن مواجهة الواقع المستجد وفي الحالتين لم نشهد، في العقود الثلاثة التي مرَّت على سقوط التجربة المحققة وثلاثة عقود من الهيمنة الأميركية الغربية وأحادية القطب، أي قراءة نقدية على مستوى الفكر وعلى مستوى نقد الممارسة من قبل هذه القوى؟
 

بعد الحرب الباردة التي خاضها الغرب تحت شعار مواجهة الشيوعية، ساد الاعتقاد بأنه مع سقوط المعسكر الاشتراكي ستنتهي معه الحروب في هذا العالم، لكن التداعيات والوقائع جاءت على عكس المتوقع. فاستؤنفت الحروب متعددة الأبعاد، واستخدمت فيها وسائل جديدة، وعناوين جديدة، فحلف «الأطلسي»، وبعد انحلال حلف وارسو، راح يتمدد أكثر وأكثر ليطاول عموم أوروبا، وبناء القواعد العسكرية في بلدان العالم كله، مع حروب هدفت إلى تفتيت بلدان وضرب الكيانات الموحدة (حرب البلقان وحرب أفغانستان، وحروب السيطرة على مصادر الطاقة، وحرب الخليج، وحصار إيران وتدمير سوريا،...). ترافق ذلك مع الحروب الهجينة، والثورات الملوّنة لخلخلة البنى الاجتماعية والاقتصادية للبلدان لفرض طغمة حاكمة تخضع لتوجهاته، مستفيدة من وجود أنظمة متخلفة ومستبدة قمعية وغياب الديموقراطية فيها. واستخدم هذا الواقع، في ظل تراجع وضياع القوى الحيّة في المجتمع كمدخل للسيطرة وزرع أدواتها المباشرة، من خلال تدمير بناها التحتية، والحصار الاقتصادي وأكثر الأحيان فوضى اقتصادية من خلال أدواتها الكبرى (البنك الدولي وصندوق النقد) المطرقة والسندان للهيمنة الأميركية.
إن التغيير في مرحلة الأحادية القطبية من تاريخ البشرية واجه واقعاً جديداً حيث أضحى العالم كله رأسمالياً مع استثناءين، كوريا الشمالية وكوبا، واستثناء ثالث هجين «اشتراكية السوق» في الصين. والصراع تحوّل بالكامل إلى صراع بين القوى الكبرى للسيطرة في العالم على مستوى الاقتصاد، والطاقة والثقافة والعلم كأدوات، وغاب بالكامل أي مضمون أخلاقي أيديولوجياً كان أم سياسياً. كما غابت معها قضية التحرر وقضايا العدالة الاجتماعية، فالأنظمة الرأسمالية في بلدان المركز عملت على الانقضاض على المكتسبات التي حققتها الطبقة العاملة وحلفائها في التربية والصحة، والضمان الاجتماعي وحقوق العمل والعمال، فبدأ تقليصها تدريجاً في الطريق نحو إلغائها وحصار الطبقة الوسطى، وفي الدول النامية بدأت تُضيق القبضة عليها، وتنوعت وسائل النهب لخيراتها ومقدراتها على طريق تحويل شعوب هذه البلدان إلى عبيد ومأجورين.
 

إن الطبقة الرأسمالية، وفي مرحلتها الإمبريالية في ظل أزماتها وجشعها الأقصى، تنكّرت لكل القيم التي كانت قد تبنتها، فأضحت مجتمعاتها أقل حرية وأقل مساواة وأقل إخاء وكذلك أقل عقلانية. وارتدت إلى المواقع الأكثر رجعية على مستوى استخدام الدين والإثنية وكل أشكال العصبيات في معاركها من أجل خوض الحروب للسيطرة الكاملة على مصائر البشرية ونهب خيراتها، وبانت الرأسمالية كما هي تدعم حكم الفاسدين في البلدان النامية كما في البلدان التي تحولت إلى الرأسمالية مع انتهاء الحرب الباردة والتي أتت بها ثوراتها «الملونة»، وحركات التحرر في العالم محاصرة بلا معين، كذلك القوى التغييرية الحقيقية التي همشت في بلدانها من خلال مؤسسات الرأسمالية العالمية مدعومة بالمال والإعلام. فخَطفت اللحظة الثورية، في ظل الفوضى المفتعلة والشعارات المبهرة الزائفة والألوان الزاهية والقبضة المسروقة، آمالَ الشعوب في التغيير الحقيقي في بناء سلطة وطنية ديموقراطية تعبّر عن طموحات شعوبها في الاستقلال والتنمية وعدم التبعية. نتج من كل ذلك حصول الشعوب على ما يشبه التغيير المرغوب به تلبية لحاجاتها، فكان ما يشبه الشيء وليس الشيء ذاته.
google-playkhamsatmostaqltradent