العمالة لمصلحة العدو امر غير مبرر مهما كانت الاسباب ، و عمل ذميم و خبيث
لا يمكن التسامح فيه . هذه الحالات الساقطة ليست جديدة على البشرية و لم يخل
شعب من الشعوب التي وقعت تحت الاحتلال او الاستعمار الاجنبي الا و برزت
فيه فئة اجتماعية تفتقر الى الكرامة الوطنية و الاعتزاز القومي و الانتماء العرقي
و الوازع الديني و الاخلاقي . فكانت ادوات لتلك القوات الغازية ، و كانت اكثر
فتكا و تنكيلا من العدو الاجنبي نفسه . ان العمالة في نتيجتها و اضرارها واحدة
لانها افادت الاعداء و اضرت بابناء الوطن . و ربما ادت الى خسران معركة
او موقع استراتيجي او قرية او مدينة او حتى وطن باكمله ، او نتج عنها مقتل
شخص او إبادة منطقة ، او تسببت باعتقال مقاتل او مجموعة مقاتلين ، او
مكنت العدو من معرفة نقاط القوة و الضعف و اماكن الاستحكامات و عدد
المدافعين و نوعية الاسلحة ، كلها في النتيجة اعمال لا يقوم بها شخص سوي
يتمتع بالحد الادنى من العقل و الوطنية و الاخلاق . و مع ذلك فإن الشخص
الذي تعرض لاصناف من التعذيب الجسدي و النفسي ، او لانواع من الابتزاز
في عرضه و شرفه ، او بالنيل من الآباء و الاولاد و الاقارب او غير ذلك من
الابتزاز الذي يتفنن فيه الاعداء عموما و عدونا على وجه الخصوص ، فربما
يبرره البعض تحت عنوان : لم يتحمل التعذيب ! و لا يقبله البعض مهما كانت
الاسباب لان الكثير من الوقائع شهدت ابطال زينوا صفحات التاريخ بصبرهم
و ثباتهم و عدم خضوعهم للاعداء بالرغم من التعذيب و الابتزازات التي لا
تتحملها الجبال . فلقد شهدت آخر مواقع المقاومة الايوبية في مناطق الجزيرة
الفراتية بطولة الكامل الايوبي الذي رفض الاستسلام و التعامل مع المغول
و عندما دخل هولاكو مدينة ميافارقين وجدوا كل من فيها قد قتل ما عدى
القليل من المقاومين و على راسهم الامير الايوبي المثخن بالجراح فصلبوه
و اخذوا يقطعوا لحمه و يضعوه في فمه ، بقي صابرا محتسبا حتى توفاه
الله تحت تعذيبهم . و هاهم رجال فلسطين المعتقلين عند العدو يتعرضون
لكل اصناف التعذيب الجسدي و النفسي و لا يقبلون الخضوع او السقوط ،
و لا يبيعون اوطانهم و ضمائرهم مقابل حريتهم ، و كم من الابطال قضوا
تحت التعذيب او في السجون كان يمكن ان يحرروا انفسهم بكلمة منهم او
بتوقيع لكنهم اختاروا الموت على المذلة و السقوط في افخاخ الاعداء .
فإن كانت العمالة غير مبررة لمن تعرض للتعذيب و الابتزاز ، فأي شئ يمكن
قوله لمن يتطوع بمحض ارادته للتعامل مع العدو ؟ فهناك اشياء لولا انها موثقة
لما صدقت لانها تخالف المنطق و العقل . لقد برزت العمالة التطوعية بشكل
غريب على بلادنا في بداية القرن الماضي ، مع افول قوة الدولة العثمانية و
بروز الانكليز و الفرنسيين ، الذين وجدوا العملاء يفتحون امامهم البلاد و
ينفذون مخططاتهم التي تهدف لبعثرة الامة و اقامة دويلات ضعيفة متناحرة
فيما بينها ، و التمهيد لاقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين . لقد جعلوهم
قادة و مستشارين و وزراء ، و سهلوا لهم مهمتهم الاستعمارية التي كلفت
الامة عشرات الالاف من القتلى و الجرحى ، و توجت بقيام كيان الاحتلال
الصهيوني على ارض فلسطين . و من العمالة التطوعية الغريبة على الانسان
العربي المجبول على النخوة و الكرمة ، تصرف احد ملوك العرب عندما
قاد طائرته و نزل ضيفا على رئيسة وزراء العدو ليخبرها بنية العرب القيام
بهجوم مباغت في تشرين الاول عام 1973 ، و بهذا استكمل طريق اجداده
الذين خدموا اليهود و الانكليز لفترة طويلة من الزمن . و كذلك قيام سياسي
مصري كبير بالمبادرة للاتصال بسفارة العدو في لندن لتمكينه من لقاء ضباط
الموساد لاخبارهم بساعة الصفر حيث كان يعلمهما كونه مستشارا للرئيس السادات
و صهر الرئيس المصري الاسبق عبد الناصر ! كل هذا كان تطوعا و " كرما "
من عملاء ارادوا تقديم خدماتهم بلا مقابل ! و نحن اليوم امام متطوعين اماراتيين
و معهم ادواتهم الفلسطينية للمساهمة بتهويد القدس . فلقد كشفت مصادر موثوقة
ان جهات فلسطينية مرتبطة بالامارات اشترت منازل مقدسية ، ما كان اصحابها
ليبيعونها لغير فلسطينيين مهما عرض عليهم من مبالغ ، ثم بعد فترة رفعت اعلام
العدو على اسطح تلك المنازل و سكنها مستوطنين يهود . بعد التحقيق و البحث
تبين بان دولة الامارات تطوعت لشراء تلك العقارات و التبرع فيها للوكالة
الصهيونية ! امر غير قابل للتصديق لولا الدلائل الكثيرة و المعلومات
المؤكدة . و ما يجعلنا في حيرة من امرنا ، كون تلك الخساسة تأتي من جهة
عربية مسلمة لا ينالها الا رضى الصهيوني و الامريكي . عمالة مع سبق الاصرار
و الترصد ! عمالة مجانية تدعونا للشك بنقاء الدماء التي تسري في عروق اصحابها .
ان العمالة ليست بنقل الخبر فحسب ، فربما تكون اشد فتكا في امور اخرى .
ان بيع الاراضي للعدو ، و اقفال المعابر على اهل فلسطين ، و نكران الحق الفلسطيني
في وطنه ، و التنسيق الامني ، و التطبيع مع كيان الاحتلال ، و فتح المطارات
و المعابر لليهود و الاجانب و اقفالها في وجه الفلسطينيين خصوصا و العرب
عموما ، و ترويج البضائع التي تنتجها دولة الاحتلال ، و بيع الغاز و البترول
باقل من سعره للصهاينة بشكل مباشر او غير مباشر ، و فتح السفارات الصهيونية
التي هي مراكز فساد و جاسوسية ، و نشر المخدرات ، و نشر الفساد الاخلاقي
و التخريب المجتمعي ، كل هذه عمالة يستفيد منها العدو و تتضرر منها الامة .
و في النهاية لا يصح الا الصحيح ، فمهما برز في جسم هذه الامة من بثور
و ثآليل فانها زائلة ، و يبقى الحق حق و لو كره المجرمون .
ماهر الصديق