(معركة الكرامة محطة نضالية ناصعة حطَّمت مفاعيل هزيمة حزيران العام 1967)
يا جماهير شعبنا الفلسطيني في الداخل كل الداخل، وفي الشتات على امتداد المعمورة، وفي غياهب اللجوء والتشرد والمعاناة....
نحيي اليوم ذكرى معركة الكرامة، المعركة الوطنية الفلسطينية ذات العمق الاردني، ونشعر بالاعتزاز، لأننا أول من حطَّم أُسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وأول من فرض على قيادته طلب وقف إطلاق النار التي أوقعت هزيمة عسكرية مدمِّرة في السلاح الجوي العربي، وشلَّت قدرات هذه الأمة، التي لم تجد أمامها إلاَّ الخضوع لشروط الاحتلال العسكرية والسياسية.
جاءت معركة الكرامة صبيحة يوم 21/3/1968 مترافقةً مع تهديدات موشي ديان وزير العدوان الاسرائيلي، بأنَّ هذه القوة المخرِّبة – بنظره- سيسحقها كما يسحق البيضة بيده. وقد وجَّه الدعوة إلى الاعلام الدولي لحضور المؤتمر الصحفي، الذي سيعلن فيه نهايةَ وجود (المخربين الفلسطينيين في منطقة الأغوار)، لكن موشي ديَّان ألغى هذا المؤتمر الاعلامي الاحتفالي، واضطر في هذا الوقت ذاته أن يطلب من القوات الدولية إبلاغ القيادة الفلسطينية، بأنه يريد وقف إطلاق النار، وفي الساعة الثامنة والنصف ليلاً كان قد سحب دباباته المحطَّمة، وجثث جنوده المحترقة داخل الدبابات وهي مقيَّدة.
إنَّ معركة الكرامة حملت الكثير من التعقيدات، والتحديات، والمخاوف، لأنها بنتائجها ستشكِّل نقطة تحوُّل في مسيرة الثورة الفلسطينية، سواء من ناحية سلبية، أو من ناحية إيجابية، لأن موازين القوى تصبُّ لصالح العدو الذي خرج من معركة حزيران 1967 منتشياً مغروراً.
إلاَّ أنَّ قيادة حركة فتح التي كانت أمام خيارات صعبة، حسمت أمرها باتجاه خوض المعركة مهما كلَّف الامر، وذلك لأسباب جوهرية أبرزها:
أولاً: إنَّ سطوةَ هزيمة الرابع من حزيران على الأمة العربية، وعلى الشعب الفلسطيني كانت مدمِّرة، ومُحبطة للأمة، ولذلك فإن قيادة الثورة الفلسطينية رفضت أن تقود بموقفها إلى هزيمة جديدة، لأن ذلك سيزيد الأمة يأساً واحباطاً، و كان لا بد من المغامرة المدروسة لتحقيق إنجاز وطني فلسطيني، ينهض بالأمة العربية، ويعيد لها أمجادها.
ثانياً: كان الوضع العربي المنهار والمتراجع بحاجة إلى الرافعة التي تستطيع أن تعيد الهيبة، والكرامة لهذه الأمة، التي يجب أن تكون الحضنَ الدافئ للثورة. وهذا ما جعل حركة فتح وقيادتها تعطي الأولوية لاستمرار الثورة مهما كانت التكلفة، وبذلك أصبحت الكرامة كامتحان صعب هو الضمانة لا ستمرار الثورة.
ثالثاً: إنَّ القرار المركزي الذي اتخذته حركة فتح بتعيين ياسر عرفات ناطقاً رسمياً باسم حركة فتح، وممثلاً للحركة على كافة المستويات الرسمية والشعبية، والإعلامية حيث أصبح الناطق الرسمي باسم حركة فتح، وهذا ما ساعد على تكريس الرمز ياسر عرفات ليكون الرجل الاول في الساحة.
رابعاً: إنَّ معركة الكرامة كمعركة مفصلية أعادت للجندي العربي ثقته بنفسه بعد هزيمة حزيران. وهذه الانعطافة التاريخية في الصراع كرَّست وشرعنت المفهوم الوطني في النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الاسرائيلي، لأنها أوقفت حالة الانهيار المعنوي بعد هزيمة حزيران، وبذلك أصبح الكفاح الفلسطيني المسلح وحرب العصابات، وحرب التحرير الشعبية، حالةً وطنية لها أبعاد قومية وعالمية، وهذا ما أوجد حالة التفافٍ شعبية حول حركة فتح.
خامساً: إنَّ القفزة النوعية في الصراع ضد الاحتلال الاسرائيلي تجاوزت أسلوب حرب العصابات في هذه المحطة الخطيرة، وذهبت حركة فتح باتجاه الصدام المباشر، ووجهاً إلى وجه ضد آليات الاحتلال وجنوده، وخططه التصفوية.
سادساً: إنَّ صلابة الارادة الفتحوية الفلسطينية، ونقاء العقيدة جعل هذه الحركة تتجاوز كافة الصعوبات، وتتأقلم مع مختلف الظروف لصناعة القرار الفلسطيني متكيِّفة مع مختلف الأوضاع مع حسن إختيار الاسلوب المناسب، وهذا ما جعل الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر كما يدَّعي الاسرائيليون، أصبح جيشاً مهزوماً ويطلب وقف إطلاق النار.
سابعاً: إنَّ نموذج الفدائي الفلسطيني المتفاني والممثلئ بالايمان، والجرأة أدى دوراً أساسياً في معركة قهر الجيش الصهيوني، وفي هذا الاطار برزت قيادات شابة دخلت التاريخ في معركة الكرامة مثل الشهداء: ربحي، والفسفوري، وأبو أُمية، وأبو شريف، وهم الذين فجروا الأحزمة الناسفة التي تزنَّروا بها، وهذا دليل على الشموخ الفلسطيني، وهذه العمليات الجريئة هي التي غيَّرت مجرى المعركة لصالحنا.
ثامناً: إنَّ معركة الكرامة منحت الفرصة التاريخية لحركة فتح من أجل فتح أبوابها الواسعة، لاستقبال الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، والعربي، ومن مختلف الشرائح. ولم يكن هناك متَّسع من الوقت للحركة لاستيعاب هذا التدفق الشبابي، إلاَّ أنها فتحت المعسكرات على عجل، وهيأت طواقم التدريب، وبدأت عمليةَ التنظيم والتدريب، وهذا ما لفت إنتباه مختلف الساحات الفلسطينية، والجامعات في مختلف الدول، وهنا نستطيع القول أن حركة فتح دخلت تاريخ الصراع من أوسع أبوابه.
تاسعاً: لقد أبرزت معركة الكرامة التاريخية أهمية التكامل ما بين العمل الفدائي الذي هو في الكرامة على قاعدة أضرب واصمدْ، مع الدور المميَّز للجيش الاردني، وهو جيش نظامي، فالأدوار هنا تكاملت وكان الانتصار، وانطلقت الثورة رائدةً عملاقة.
عاشراً: ولا شك أن الهجوم الإسرائيلي الغادر والمدجَّج بالأسلحة البرية والجوية كان يهدف إلى إنهاء العمل الفدائي، وتصفية وجوده في منطقة الأغوار. وفي الوقت نفسه كان يهدف إلى معاقبة المملكة الاردنية، لأنها احتضنت هذه الطليعة الثورية، وساندتها. كما أنَّ الطموح الأبعد للجانب الإسرائيلي كان في نجاح خطته بالسيطرة على مرتفعات السلط، من أجل تحويلها إلى حزام أمني لإسرائيل.
أحدعشر: إن الجانب الصهيوني خسر في هذه المعركة على الاقل (28) قتيلاً عسكرياً، وما يزيد على مئة جريح. وهذه خسارة كبيرة معنوياًبالنسبة للجيش الاسرائيلي، كما أنَّ حركة فتح وحسب كتاب معركة الكرامة(للمؤلف اللواء محمود الناطور أبو الطيِّب) هم أربعة وسبعون شهيداً.
أما شهداء قوات التحرير الشعبية في معركة الكرامة فعددهم سبعة وعشرون شهيداً، علماً ان قوات التحرير الشعبية التابعة لجيش التحرير، انتشرت على بعض التلال المجاورة، وتصدوا للطائرات التي كانت تقوم بإنزال القوات الاسرايلية.
أما شهداء الجيش العربي الاردني في معركة الكرامة فعددهم (أربعة وسبعون شهيداً)، وهم الذين تركَّز دورهم في كتائب المدفعية.
وهنا لا بد أن نشير إلى المرأة الفلسطينية الحاجة أم يوسف واسمها(أم الفدائيين)، وهي التي استقرت في مخيم الكرامة بعد النكبة العام 1948 قادمة من حيفا، علماً أنها ولدت في قرية المشهد(الناصرة) العام 1920 وهي التي عملت في وكالة الغوث الدولية كممرضة في عيادة مخيم الكرامة، وقامت بدور فاعل في معالجة الجرحى، وتمتَّعت بجرأة وشجاعة نادرتين.
في هذه الذكرى المجيدة، والتي فتحت أمامنا أبواب الانتصارات، والانجازات، فإننا نؤكد بأن حركة فتح صاحبة تلك المواقف التاريخية، التي صعت المجد لشعبنا، ما زالت تتمسك بمبادئها وأهدافها رغم الضغوطات والمؤامرات التي تستهدف وجودها، وتعمل على تصفيتها، كونها الأم للعمل الوطني الفلسطيني، والاحرص على القضية الفلسطينية، فهي التي حملت الهمَّ مبكراً، وقدَّمت خيرةَ قادتها شهداء إكراماً لفلسطين، ومقدساتها، وشعبها، وهي ما زالت المؤتمنة لأنها تنتمي إلى فلسطين، ولأنها صاحية القرار الفلسطيني المستقل، ولأنها لا تساوم على المقدسات الدينية، والثوابت الوطنية، وهذا ما تعلمناه من الرمز ياسر عرفات، ومن المؤتمن على الثوابت الوطنية الفلسطينية الرئيس محمود عباس.
وأخيراً نقول لشعبنا وأمام ما تشهده الضفة الغربية من هجمة صهيونية عنصرية، تريد إقتلاع وجودنا، وأمام ما يشهدهُ قطاع غزة من محاولات جادة لفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية والقدس، وتمزيق وحدة الشعب الواحد، لتسهيل مهمة تجريد شعبنا من تاريخه الوطني، ومن هويته الوطنية التي تجمِّع ولا تفرِّق، والتي تستند أساساً على تجسيد الوحدة الوطنية الجامعة.
المجد والخلود لشهدائنا الابرار.
والحرية لأسرانا البواسل في المعتقلات والزنازين.
والشفاء للجرحى المعذَّبين.
وانها لثورة حتى النصر
قيادة حركة فتح – الاعلام المركزي
لبنان
21/3/2019