ما تسرّب من معطيات حول المقترحات التي حملها مستشار الرئيس الاميركي وصهره جاريد كوشنير ومبعوثه للشرق الاوسط جايسن غرينبلات وبحثهما مع الملك الاردني إمكانية توطين 2.2 مليون لاجئ في الاردن.. يبدو أنه مجرد غيض من فيض المضمر في ما يسمى "صفقة القرن"، خصوصاً متى تمّ ربط هذا التوجه مع قطع المساعدة الاميركية عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" والبالغة 365 مليون دولار، بعد قرار سابق قضى بتجميد 300 مليون دولار من المبلغ الإجمالي المدفوع عام 2017.
بالطبع لم تقف الامور عند حدود الضغط المالي على الوكالة الأمميّة، إذ رافقتها حملة سياسية – اعلامية مركّزَة صبّت جام غضبها على الدور الذي تلعبه الوكالة الدولية في الحفاظ على قضية اللاجئين الفلسطينيين، وتوريث صفة اللجوء من جيل إلى جيل، ما يديم القضية الفلسطينية ويكفل استمرار المطالبة بحق العودة. وترافق ذلك مع مشروعين يدرسهما الكونغرس لحصر صفة اللاجئ الفلسطيني بالجيل الذي عاصر النكبة عام 1948، والذي يتناقص تباعاً إلى الحد الذي تحدّد عدده الدوائر الاميركية بحوالي 40 ألف فلسطيني فقط. أما الباقون من ملايين اللاجئين المسجلين في سجلات "الأونروا" في مناطق عملياتها الخمسة: الضفة والقطاع والاردن ولبنان وسوريا، فما عليهم إلا أن يحملوا جنسيات الدول التي يقيمون بها. وعندها تحوِّل الولايات المتحدة الاموال التي كانت تقدمها للوكالة إلى الدول المعنية. على أن يترافق ذلك مع إلغاء "الأونروا" كمنظمة أممية عملياً، إن لم يتم إلغاؤها قانونياً في الأمم المتحدة، وتحويل المسجلين في قيودها إلى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التي عليها أن تعمل على تدبّر توطينهم.
بالطبع أعلن الأردن رفضه للمقترح الاميركي، خصوصاً وأنه يبطن ما هو أكثر من تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، إذ وراء أكمة هذا التوجه أيضاً تحويل الأردن إلى الوطن الفلسطيني البديل عن الاراضي الفلسطينية التي احتلتها اسرائيل في العام 1967 في كل من الضفة والقطاع، باعتبار أن مكان الدولة الفلسطينية هو خارج "يهودا والسامرة". وإن لم يتحقق ذلك، ففي قطاع غزّة وجزء من منطقة سيناء مساحة تتسع لإنشاء مطار ومنطقة صناعية ما يخفف من الاكتظاظ السكاني الذي يعاني منه القطاع. ولا تعترف الإدارة الاميركية بوجود لاجئين في غزة علماً أن عددهم أكثر من مليون نسمة، ولا بمبدأ عودة اللاجئين في كل من الأردن ولبنان وسوريا إلى ديارهم. وعليه، تعمل على التخلّص من قضية اللجوء كلياً ضمن مساعيها للانتهاء من الملفات الشائكة والعالقة بين الفلسطينيين واسرائيل... وهكذا يجري التقدم خطوات على طريق حل "قضية الشرق الاوسط" والصراع العربي - الصهيوني عبر تقليص عدد اللاجئين بمنظومة متكاملة من الإجراءات تتضمن الضغوط الاقتصادية والمعيشية لدفعهم للهجرةومغادرة المنطقة.
الفعلي إذن هو وجود مشروع توطين تملكه إدارة الرئيس ترامب ويقضي باستقرار أعداد من اللاجئين الفلسطينيين في أماكن اقاماتهم المؤقتة في الدول العربية المضيفة، وما لا يمكن استيعابه من أعداد تتولى المفوضية تدبير هجرة الفائض منهم. وبذلك يتم طي صفحة اللجوء الفلسطيني وحصر المسؤولية عن اللجوء بالمفوضية العامة لشؤون اللاجئين، وتكريس يهودية فلسطين من خلال تحويل قانون قوميّة الدولة إلى واقع، وهكذا تتكامل الخطوات من الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال إلى نقل السفارة إليها وما تبع ذلك من إجراءات عقابية سياسية ومالية اميركية ضد الشعب الفلسطيني وقيادته.
بالطبع ليست هي المرة الاولى التي يتم خلالها إنتاج مشروع توطين للاجئين الفلسطينيين أميركياً أو اسرائيلياً أو...، فالفعلي أن مشاريع التوطين، وهي بالعشرات، واكبت قضية اللاجئين منذ العام 1948. وضعها مبعوثون أوفدتهم العهود الاميركية المتعاقبة، أو بمبادرات من شركات ومؤسسات وحتى أفراد. أول هذه المشاريع وضعه ماك غي وتلاه كلاب وبلاند فورد وأريك جونستون و... القاسم المشترك بينها اعتبارها المدخل للتوطين وبالتالي التخلص من قضية اللاجئين، اقتصادياً وإنمائياً، ومشاريع زراعية وصناعية وحرفية وتأمين بنية تحتيّة (طرقات، مجارٍ، سدود مائية، استصلاح اراضٍ ومؤسسات صناعية وخدماتية وخطط إسكان) في كل من سوريا والأردن، بما يقود في المحصّلة إلى استقرار اللاجئين في هاتين الدولتين خصوصاً، مع تخفيض عدد اللاجئين في لبنان، لكن بعض المشاريع أضافت العراق كونه القادر على استيعاب مليون لاجئ على مدى عشرين سنة (مشروع للخارجية البريطانية في العام 1955 ناقشته مع الحكومة الأميركية ويحمل التقرير بشأنه رقم 115625/ 37 F/) على أن تتولى اميركا وغيرها تمويل هذه المشاريع.
بداية انطلقت السياسة الاميركية من مبدأ الحفاظ على موقع اسرائيل ودورها المميّزين، ومواجهة الخطر السوفياتي والمدّ الشيوعي. أما الآن، فتضيف إلى ذلك الإفادة من التفكك العربي للتخلص من جوهر الصراع وإلقاء مسؤولياته على الحكومات العربية. ودوماً ووجهت المشاريع بموقف عربي – فلسطيني موحّد يصرّ على حق العودة ، ما دفع اسرائيل إلى إعداد ملف بشأن اليهود الذين غادروا الدول العربية وقيمة ممتلكاتهم وتجهيزه كي يكون حاضراً، وبذلك تتحوّل القضية من عودة لاجئين فلسطينيين أو تعويضهم إلى عودة اللاجئين اليهود أو تعويضهم أيضاً.
يبقى من المهم القول إن ما سبق من مشاريع ومحاولات هدفت كلها للتخلص من القرار رقم 194 (صدر في 11 / 12 / 1948 في جلسة رقمها 186 بتأييد من 35 و15 ضد وامتناع 8 دول عن التصويت) الذي كرَّس حق العودة أو دفع التعويضات، وفيه الكثير من التفاصيل التي تتناول ليس فقط حماية وإدارة الأماكن الدينية المقدسة، وإنشاء نظام دولي لمنطقة القدس ووضعها تحت مراقبة الأمم المتحدة، بل نص على الربط بين الاعتراف بهذا القرار والاعتراف بدولة اسرائيل، التي لا يدخل في اعتبارها بعد 70 عاماً من صدوره إعادة اللاجئين بل استجلاب اليهود من سائر الدول وتوطينهم في دولتهم القومية.
===========================
* باحث وأكاديمي لبناني