بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
ظاهرة أبطال انتفاضة القدس الثالثة تسترعي الانتباه، وتثير الفضول، وتفرض نفسها على مراكز الدراسات ومؤسسات القرار، فقد باتت محل دراسة واهتمام العدو قبل الصديق، فالفلسطينيون والغربيون والإسرائيليون يدرسونها، والمستقلون المحايدون، والمؤيدون المنحازون، والأعداء والخصوم يحاولون فهمها، والكل أمامها مندهشٌ ومستغرب، وبعضهم مصدومٌ ومستنكر، لكنهم يجمعون على أنها ظاهرةٌ غريبةٌ نادرة، تستحق الدراسة والبحث، والتأمل والفهم، إذ فيها ما يوجب التوقف والتأني، والدراسة والتمحيص، أما الحكم عليها ظاهرياً، والتسرع في وصفها شكلياً، فإنه تعسفٌ وعجلةٌ، وظلمٌ وإساءة.
العدو الصهيوني بمختلف مؤسساته الأمنية والعسكرية والنفسية والاجتماعية والإعلامية، هو أكثر من عكف على دراسة مواصفات جيل الانتفاضة الثالثة، وعرف ما يميزهم عن غيرهم، وما الذي اختلف فيهم وعندهم عمن سبقهم حتى غدوا على هذا الشكل المريع المخيف، ذلك أنه الأكثر تضرراً من هذا الجيل، وقد ظن أنه قد رباه على عينه، وأنه قد أخلص تربيته، وأحسن توجيهه وتعليمه، إذ أنشأه على تعاليم أوسلو، وعلمه أسس هذه الاتفاقية التي أراد بها أن يستنيخ الفلسطينيين وأن يستنوق رجالهم، وأن ينهي روح المقاومة فيهم، ويرضيهم بواقعٍ يفرضه عليهم، ويقضي على كل ثورةٍ في نفوسهم كامنة، أو في مفاهيمهم باقية، وقد أشرف بنفسه على متابعة هذا الجيل، واستقدم حليفته الولايات المتحدة الأمريكية، التي جاءت بخبرائها وفنييها، وأساتذتها ومدربيها، لتكون أمينةً على هذا النشئ، لئلا ينحرف أو يضل، حتى بات الجنرال دايتون هو رمز المرحلة، وعنوان الجيل الذي سموه جيل دايتون.
خلص الإسرائيليون في دراستهم لظاهرة جيل الانتفاضة الجديد إلى أنهم يختلفون عن سواهم، فهم يتمتعون بروحٍ جهاديةٍ عاليةٍ، وعندهم ميول للمقاومة كبيرة، وهم على استعدادٍ عالي للتضحية، ولا يترددون في الإقدام على أي عملٍ أياً كان، وهم على يقينٍ بأنهم سيدفعون فيه بالمقابل حياتهم، وأنهم بعد تنفيذ خطتهم لن يكونوا في الغالب على قيد الحياة، وشواهدهم على ذلك كثيرة، إذ ما نجا من القتل على أيدي جنود الاحتلال ومستوطنيه أحدٌ ممن طعن أو قرر الطعن أو الدهس.
وتبين لهم قطعاً أن هذا الجيل جيلٌ شابٌ قويٌ، دون العشرين وحتى أواسطه، يقل عن ذلك ولا يزيد إلا قليلاً، وهو جيلٌ طموحٌ واثقٌ، مؤمنٌ متعلم، واعيٌ ومتدبر، لا يقدم على ما يقوم به يأساً أو قنوطاً، ولا ضيقاً أو إحباطاً، إنما يقبل على ما يقوم به وكله أملٌ وثقةٌ ويقين، واستبشارٌ وسعادة وفرح، تبدو عليه قبل تنفيذه لمخططه وهو يودع والديه، ويسلم على أصحابه، ويستودع ما أحب في حياته.
وهو جيلٌ جمع الجنسين معاً، فما كانوا ذكراناً متحمسين، وشباناً يتطلعون إلى الرفعة والمجد، أو إلى الشهرة والذكر، بل كان منهم إناثٌ لا يقلن عن الذكور حميةً وحماسةً، وجرأة وشجاعة، وهن فضلاً عن أنهم صغيرات السن، وما زلن في ربيع العمر الناهد، فهن جميلاتٌ مميزاتٌ، ورشيقاتٌ مائساتٌ، لا ينقص جمالهن قدٌ ولا خصرٌ، ولا انسياب شعرٍ أو طولُ هُدُب، ولا عذوبة لفظٍ ولا نعومة صوتٍ، بل كن جميعاً كإشراقة الشمس وبهاء القمر، وجاذبية النجوم اللامعة.
وكلاهما من الجنسين كانوا عزباً، لم يسبق لهم الزواج، ولم يتركوا خلفهم زوجةً ولا ولداً، ولم يقل أحدهم أني ما استمتعت في هذه الحياة بشئ، وما ذقت نعيمها بعد، ولم أدخل دنيا كما دخلها غيري، فآثر التأخر عن اللحاق بركب المقاومة رغبةً في نعيم الدنيا ومتعة الحياة فيها، بل على العكس من ذلك، إذ كانوا خفافاً وانطلقوا من بيوتهم غير متثاقلين إلى الأرض، وغير ناظرين إلى شئٍ غير حرية بلادهم، وطهارة أوطانهم، وراحة شعبهم من بعدهم، وما في قلوبهم غير الرضى، ولا شئ يتراءى أمام عيونهم غير الجنة ومن سبقهم إليها من الأنبياء والصديقين والشهداء.
وخلص الإسرائيليون في دراستهم إلى أن دوافع الفلسطينيين الذين نفذوا عملياتهم ضد أهدافٍ إسرائيليةٍ، كانت دوافعٌ قوميةٌ ودينيةٌ، وأنها كانت بقصد الثأر والانتقام منهم، لما ارتكبوه من جرائم واعتداءاتٍ في حق الفلسطينيين وأرضهم، ومسجدهم ومقدساتهم، وثأراً لشهداء آخرين قتلهم جيش الاحتلال، أي أنهم كانوا يعرفون ما يريدون، وكانوا يخططون لما يريدون.
ورأى الإسرائيليون أن المقاومين الفلسطينون لم يخرجوا من مدينةٍ واحدة، ولا ينتمون إلى مخيمٍ معينٍ أو بلدةٍ بعينها، بل هم مزيجٌ من كل المناطق الفلسطينية، وأخلاطٌ من كل المجتمع، بما يسقط نظرية الرفاهية التي تحاول الحكومة الاستظلال بها أو الاحتماء تحتها، فقد جاء منفذو عمليات الدهس والطعن من القدس ذات المكانة الدينية والوطنية، ومن رام الله ونابلس وبيت لحم، حيث يوصف أهلها ببعض الرخاء وبالكثير من الرفاهية بالمقارنة مع غيرهم من سكان المناطق، وإن كان أكثر المقاومين كانوا من محافظة الخليل، التي بدت وكأنها خزان الانتفاضة الكبير، ومعينها المتجدد الذي لا ينضب.
غضب الإسرائيليون من خلاصتهم التي خرجوا بها، وانزعجوا من دراستهم التي كانت هذه نتائجها، وقلقوا على أنفسهم جداً عندما علموا أن هذه هي خواتيمها، وأن هؤلاء هم رجالها ونساؤها، وأنهم روحٌ جديدةٌ تسري، ونسيجٌ مختلف لا يشبه إلا نفسه، ونورٌ من بين ظلامهم ينبعث، وضياءٌ من وسط ليلهم يشتعل، وصبحٌ بعد طول ليلهم ينبلج، وبيده ينسج خيوط نصره، ويرسم معالم غده.
لا شك أنهم عن غيرهم مختلفون، وعن سواهم متميزون، ومن بين أقرانهم يعرفون، وعلى الجميع يتقدمون، وقبل الكل يذكرون، يتقدمون الصفوف، ويقودون المسيرة، ويحدون الركب، ويرفعون الراية، ويهبون للنداء، ويسرعون للواجب، ويستجيبون للحق، بهم نفخر ونزهو، ومعهم نطمئن وإليهم نركن، وفيهم نثق وعليهم نعتمد، فهم شامةٌ وعلامةٌ، وميزةٌ وخاصية، وطفرةٌ وثورةٌ، وهم لا يشبهون سواهم ممن سبقهم سوى في انتمائهم لفلسطين وحبهم لها، واستعدادهم وجاهزيتهم للتضحية في سبيلها، والدفاع عنها بأقصى ما يستطيعون، وأنفس ما يملكون، فهم امتدادٌ لشعبٍ، ولفرعٌ لأصلٍ، يحملون الإيمان، ويعملون بإخلاص، ويقدمون بتجردٍ، ولا ينتظرون من غير الحق ثواباً، ومن غير شعبهم وأمتهم تقديراً ووفاءً.
بيروت في 22/12/2015